الجمعة، 16 سبتمبر 2022

عتّال شارع الدائري

 لطف الصراري

بصعوبة شديدة تمكّن مبروك عضلات من الوقوف على قدميه. حرّك كتفيه ليعدّل وضعية كيس الأسمنت على ظهره، ومشى بساقين متباعدين وخطوات متعرّجة.

  مسافة الأمتار السبعة من مؤخرة صندوق الشاحنة إلى نهاية المستودع، بدت له مساوية للمسافة التي تفصله عن بيته. وعندما اقترب من زميله الذي يرصّ الأكياس بطريقة متداخلة لإبقائها متماسكة، ترنّح موشكاً على السقوط. زميل ثالث عاد لتوه من إلقاء حمولته حال دون سقوطه؛ أمسك به وحاول مساعدته في حمل الكيس الذي احتكّ طرفه الأسفل بطرف أحد الأعمدة الخرسانية الفاصلة بين فتحات المستودع الثلاث. لكن مبروك انتفض كالممسوس، وتكفّلت الكيلوات الخمسين التي لا تساوي شيئاً أمام بُنيته الجسدية، بدحرجة خطواته إلى الخلف نحو عمود خرساني آخر. سمع ثلاثتهم صوت تمزّق الكيس الورقي السميك حين ارتطم ظهر العتّال العملاق على الطرف الحاد للعمود، وضرب الزميل الشهم جبهته بيده اليمنى فبدا صوتها مقارباً لصوت تمزق الكيس.


  شتم مبروك زميله الشهم الذي بادر للاعتذار والمواساة، مبدياً استعداده لتحمّل ثمن كيس الأسمنت من أجرته، لأن طيبة ربّ عملهم لا تتضمّن التسامح إزاء تلف البضائع أثناء نقلها، وحالة مبروك لم تعد تحتمل خصومات من هذا النوع. إجمالي أجرته اليومية بالكاد يصل إلى النصف مما كان قادراً على جنْيه قبل شهرين حين اخترقت شظية صاروخ جدار بيته، قاذفةً في طريقها كتلة من الجدار استقرّت فوقه وزوجته وابنهما ذي السنوات الخمس. كان أصغر أولاده السبعة وأكثرهم ذكاءً وتعلّقاً به إلى درجة رفض النوم بعيداً عنه، حتى أنه عندما كان الزوجان يرغبان ببعضهما، لا بدّ أن يتعاونا في هدهدته حتى يأخذه النوم، ثم ينقله بحذر إلى الغرفة الثانية حيث ينام إخوته.

   غرفتان، ومطبخ صغير وحمّام. هذه كل مرافق بيت مبروك الذي حصل عليه بضربة حظ عندما أُدرج اسمه ضمن المستفيدين من السكن بمدينة المهمّشين في الطرف الآخر من المدينة. وبعد استقراره فيه، تولّدت لديه الرغبة بعيش حياة مختلفة عن تلك التي عاشها في أكواخ الصفيح. عمل بجهد مضاعف لتأثيث بيته، وأدخل أولاده المدرسة طالما كان شديد الحرص على النظافة الشخصية في المأكل والملبس والمسكن. كان يمشي بزهو، حاملاً كيسين من الأسمنت كل واحد على كتف، ويلقي بهما دون أن يحني قامته الضخمة، ثم يثني ذراعيه مستعرضاً عضلات ساعديه أمام زملائه، ولذلك سمّوه مبروك عضلات. وفي نهاية كل يوم عمل، اعتاد أن ينفض الغبار الذي يعلق بملابسه طيلة النهار قبل أن يتوجه إلى الحمّام الضيق في مؤخرة محل مواد البناء. وبالرغم من أنه كان يعمل أيضاً في محلّين مجاورين، أحدهما للمواد الغذائية بالجملة والآخر للأجهزة الكهربائية المنزلية، كان محلّ أبو يحيى وجهته المفضلة للاغتسال في حمّامه من غبار الأسمنت ودقيق القمح وغيرها من البضائع التي ينقلها على ظهره من وإلى الشاحنات.

  بعد كل صلاة مغرب اعتاد مبروك أن يقف على الرصيف القصير لشارع الدائري وما زال محتفظاً بما يكفي من النشاط ليذرع الرصيف جيئة وذهاباً، ممازحاً زملاءه العاملين في المحلات الثلاثة، والعتّالين في المحلات المجاورة؛ تارة يغنّي وتارة يمشي راقصاً بضع خطوات، وحين يصل أمام الباب ذي الستّ درفات، يقضى ما يقارب ربع الساعة في هذا المزاج المرح، بينما يمسك شماغه المهترئ لينفض به الغبار العالق بملابسه ووجهه وذراعيه وساقيه. يفرد الشماغ وينفضه بقوة في الهواء، فتطير مع الغبار بعض خيوطه الحمراء المحبوكة في شكل كبسولات المضاد الحيوي الذي يلجأ لمسحوقه الأصفر كلما أصيب بجرح في جسمه. بعدها ينطّ العتبة المرتفعة قليلاً عن الرصيف بقفزة جانبية إلى الداخل، ويتوجه إلى الحمّام، ملتقطاً في طريقه كيس البلاستيك اللدن الذي يضع فيه ملابسه النظيفة في بداية النهار. أثناء الاستحمام لا يتوقف عن الدندنة بمقاطع قصيرة من الأغاني التي يحفظها، وحين يخرج تكون ابتسامته متوهّجة على سحنته شديدة السواد، وباطن كفّيه مثل حقلين خصبين بعد البِذار. يأخذ حسابه من يحيى- الشاب المتأنق بذراعيه المكسيّين بشعيرات ناعمة، ثم يأوي إلى جنّته الصغيرة التي تحوّلت الآن إلى خرابة يعرّش فيها الأسى على فقدان صغيره، وأنين زوجته التي بتر الأطباء ساقها الأيسر لإنقاذ حياتها.

  لا تزال الفتحة التي أحدثتها شظية الصاروخ في الجدار كما هي. فقط ثبّت عليها قطعة "فليكس" من النوع المستخدم في اللافتات الإعلانية الموسمية، وقطعة أخرى غطى بها مكان نافذة الألمنيوم التي طارت على إثر قوة الانفجار وانغرس أحد أطرافها الحادة في صدر صغيره. كان مساءً ربيعياً دافئاً، وأثناء اتكائه على العمود الخرساني الذي تمزّق على حافته كيس الأسمنت، جأر مبروك بصوته الخشن لأول مرة منذ حلّت به الكارثة. بكى أمام زميليه ولام نفسه لأنه لم ينقل طفله تلك الليلة لينام مع إخوته، وشتم جنود الدورية العسكرية التي مرّت بالقرب من بيته دون أن تُصبهم الغارة الجوية. عدّد كل ما كان يعتقد بأنه سيحول دون نزول المصيبة عليه، وتذكّر كيف كان صغيره ينتظر عودته في المساء. "كان يِجري لَلْباب أوّل ما أدقّ عليهم، كان يِعرِف دقّتي قبل امُّهْ واخْوَتُهْ...". قال مبروك قابضاً يمناه وضرب صدره بقوة دفعت زميلاه للإمساك بها بعد الضربة الثالثة، بينما يصرخ زميلهم الرابع من طرف صندوق الشاحنة ليحثّهم على الإسراع في تفريغ الحمولة. حاولا مساعدته على النهوض للعودة إلى البيت، لكنه تفلّت من أيديهما واستلقى على أرضية المستودع المفروشة بنشارة الخشب. استمرّ في ضرب صدره بوهن، وأصابعه تنزع قميصه للأعلى. شيء ما أثقل من حمولة خمسمئة كيس من الأسمنت يجثم فوق صدره؛ شعور بالعجز يفرغه من نفسه. ذلك الشعور بانسحاب الأحشاء إلى تحت الركبتين، ثم تنمل الساقين والقدمين، كما لو أنه معلق وأحشاؤه تتدلى كشرائح كرباج.