خارج حدود السيطرة.. داخل القصر الجمهوري


اشتبكوا مع الجيش كما تأخذ المعركة تسميتها، دمروا أبراج الكهرباء وفجروا أنابيب النفط. ليست هذه هي المرة الأولى لإقدام القبائل في مأرب على استخدام العنف المضاد في وجه الدولة. فالعام الفائت كان دامياً أيضاً وملتهبا على ذات الخلفية: استهداف عناصر تنظيم القاعدة.
  منذ سنوات استفادت عناصر القاعدة من الحماية القبلية في مأرب، حيث الولاء للدم والعرف أكثر من الدولة. بعض أفراد القاعدة ينتمون عشائريا الى قبائل مأربية وبعضهم ضيوف سعوديون ويمنيون من محافظات أخرى، سيما شبوة وأبين، وهما المحافظتان الأكثر جذبا للغارات الجوية منذ نهاية العام الماضي. في شبوة حاولت القبائل إنكار وجود عناصر من التنظيم في مناطقها، فيما تأكدت أنباء عن بعض المشائخ أنهم طلبوا من تلك العناصر مغادرة المنطقة تفادياً للضربات الجوية التي تودي بحياة الأبرياء. أما مأرب فالوضع فيها مختلف؛ منتصف العام الفائت حين اشتبكت قبائل عبيدة مع قوات الجيش بقيادة وكيل الأمن القومي، كان الوضع محرجا للدولة، فالمقاتلين الذين قيل أنهم شبان غير مدربين، تمكنوا من الاستيلاء على معدات عسكرية ثقيلة تابعة للجيش وأسروا سبعة منهم. لكن في الحقيقة، كان المقاتلين ضد الجيش شبان مدربين على يد قادة في "التنظيم" هم الذين قادوا القتال. وانتهى الأمر بوساطات قبلية وشبه رسمية كما ينتهي نزاع مسلّح بين دولتين.
   قبائل عبيدة والجدعان وغيرهما من قبائل مأرب ومحيطها شديدة الحساسية إزاء حضور الدولة في مناطقهم حتى قبل أن تصير حاضنة آمنة لعناصر القاعدة الذين يشكل الشباب غالبيتهم. لقد تضاعفت قوة القبائل بحضور القاعدة، وبالنظر إلى محتوى التسجيلات الصوتية والمرئية لقادة القاعدة، يمكن قراءة الإشادة بتعاون القبائل بما يفيد وجود تحالف طويل الأمد ووثيق الصلة بين الجانبين. هناك تدريب مستمر لمقاتلي القبائل على أيدي الخبرات الوافدة إلى المحافظة، وهذا ما أظهرته شراسة المعارك التي تتجدّد على أوقات متقاربة في العامين الأخيرين.
  لم تكن ردة الفعل القبلية على الدولة تصل حد قصف المنشآت النفطية بصواريخ الكاتيوشا، كما لم تشن هجوماً على القصر الجمهوري بالمحافظة. لكن منذ الإعلان عن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب لم تعد مأرب محافظة يمنية تقطنها قبائل تتمتع بحكم ذاتي، يريد شبان القاعدة أن تتواطأ الدولة معهم ومع رفاقهم –كما تواطأ كبارهم- لاستهداف المصالح الأجنبية في اليمن، واتخاذ مأرب ومحيطها كمعسكرات تدريب لإطلاق هجمات إقليمية ودولية، وهو ما لا تستطيع الدولة قبوله. ماذا ستقول لأميركا؟ "اعتبريهم مثل أبنائك"؟ مستحيل.
   جاءت أحداث الأسبوع الماضي لتؤكد أن مقاتلي عبيدة والجدعان والقبائل الأخرى التي لبّت نداء الشيخ الشبواني يخوضون معاركهم مع الدولة كما لو أنهم ينتمون لدولة أخرى معادية. الأمر الذي يمكن اعتباره النتيجة الطبيعية لتمازج فكرة الجهاد مع الغلظة البيولوجية للعقلية العشائرية. إنه خطر إضافي على ما تبقى من الهوية الوطنية في تلك المناطق.
   إزاء هذا كله تقف السلطة على الطرف المقابل للقبائل كخصم، لتتعزز بذلك ندّية الوجود القبلي لوجود الدولة مثلما تتعزز ثقتهم بسلامة موقفهم السياسي في حال بدأت الدولة باستهدافهم. ماذا يريدون أكثر من الحنكة في التفاوض وامتلاك القوة العسكرية ليرفعوا علماً آخر في مدخل المحافظة؟ لكنهم يرفعون عوضاً عن ذلك سلاحهم، الذي يحوزونه أصلاً ضمن الترضيات الحكومية، كلما استشعروا نية الدولة في كسر شوكتهم.
   منذ الاثنين الفائت حتى الخميس استطاعت قبيلة عبيدة أن تؤلب إلى صفها حلفاء ضمن النطاق الجغرافي لمأرب، الجوف وشبوة. استجابت قبائل الجوف واستحدثت حواجز لقطع الطرق في مناطقها وتاليا التحكم بحركتها، فيما قبائل شبوة اكتفت بنبش احتجاجها السابق على قتل عدد من الأطفال والنساء في الغارة الجوية التي استهدفت مواقع للقاعدة في نطاق قبيلة باكازم في ديسمبر 2009. لكن لماذا بذلت الدولة لقبائل مأرب كل ما يطلبونه نتيجة قتل أربعة أشخاص بالخطأ، فيما عشرات القتلى من الأطفال والنساء في شبوة يذهبون طيّ التجاهل والنسيان؟
  وبتكرار الأخطاء الفادحة التي تصاحب العمليات العسكرية على مواقع "القاعدة"، يتعزز الشك في كون المؤسسة العسكرية تحارب الإرهاب أم تحارب أشخاصاً وقبائل بغض النظر عمّا إذا كان الهدف هو القضاء على الإرهاب. هكذا أخطاء يمكن أن تفرز كيانات تذهب بالخصومة مع الدولة إلى خارج حدود السيادة.