الجمعة، 19 نوفمبر 2010

لماذا أبدو على هذا القدر من الجدية؟


   ذات مساء في شهر مارس من العام 2004 وقف فريق مسرح جامعة تعز على خشبة قاعة صغيرة خلف المسرح المفتوح بجامعة جنوب الوادي في مصر. كانوا يؤدون البروفات النهائية قبل عرض مسرحية قصيرة ساخرة ضمن فعاليات الملتقى الفني لطلبة الجامعات العربية، وكان الفريق بأكمله من الطلبة الهواة بمن فيهم صلاح الوافي- مؤلف المسرحية، بطلها الرئيس ومخرجها أيضاً- وهو بالمناسبة، يخطو الآن خطوات واسعة في طريق النجومية كممثل كوميدي بارع، كما أنه صار يؤدي أدواراً في مسلسلات ليست من تأليفه.

   بعد عدة محاولات للشاب الذي يقوم بدور الفرّاش في عيادة خاصة، كاد الفريق أن يصاب بالإحباط لعدم إتقانه الدور الذي يفترض أن يتضمن أداءً طريفاً ومضحكاً، باعتباره أول مشهد في المسرحية وينبغي أن يشدّ الجمهور.
    كنت ضمن ذلك الفريق كمشرف تنفيذي للوفد المشارك في الملتقى عموماً، وحين رأيت الفريق على وشك انتكاسة نفسية يدارونها بالسخرية فيما بينهم قبل ساعة من العرض، أمسكت المكنسة من يد الشاب بانفعال، وقمت بالدور الذي كنت قد حفظته من كثرة التكرار. لم يكن في أدائي شيئاً مضحكا بالطبع، لكنه أعاد للفريق تلك الجدية التي ينبغي أن يأخذوا بها طريقة تقديم العرض الساخر. وحين انتهيت من تمثيل الدور، شعرت بالخجل لأنهم كانوا يحملقون في وجهي باستغراب لم أفهمه، لكن إحدى الفتاتين اللتين كانتا معنا تجرّأت على أن تخبرني رأيها في عدم تناسب شخصيتي مع الأدوار الساخرة، وتقصد بـ"الساخرة" طبعاً، المضحكة. وعلى أية حال، لم يكن في نيتي أن أبدو مضحكاً بقدر ما أردت إعادة الجدية إلى الفريق الذي بدأ غالبية أعضائه يهدرون الوقت بالسخرية والضحك المكتوم من أداء زميلهم. هل الجديّة مطلوبة بهذا المفهوم؟ لقد عادت الجدية إلى الطلبة هواة المسرح، لكن مع كثير من التوتر، وفي حين كان الخجل يضج الدم لترات على وجهي، طلبت من عازف البيانو أن يعزف اكثر من أغنية راقصة، وبادرت في الرقص.
    في مواقف كثيرة أدرك أني لا أجيد التعامل مع السخرية حين تأخذ معنى الطرافة، وذات مرة اكتشفت أن صوتي لا يصلح لإلقاء النكات، ناهيك عن كوني ذا نفس قصير فيما يتعلق بإبقاء انتباه الآخر مشدوداً إلى نكتة طويلة أو سلسلة من النكات والمواقف المضحكة التي يفضلها الأصدقاء، عادةً، في الرحلات أو في جلسات القات غير العملية. وحين أكون برفقة أصدقائي ولا أستطيع أن أشارك في إبقاء جو الضحك مستمراً، أتساءل: لماذا أبدو على هذا القدر من الجدية؟ إذ أن التفكير في أمور تعيسة سرعان ما يشد ذهني بما يشبه الهروب من الضحك. بإمكاني أن ألقي محاضرة من ساعتين في أمر جاد، دون أن أهتم سوى بمشكلة انتباه الأشخاص الذين يبقى رهاب صمتهم مصدر قلق بالنسبة لي، وإلى ذلك، سيخيب أمل أي شخص مكتئب في الحصول على بعض المواساة مني، إذ أني لن أمنحه أكثر من مساعدته على أن يعيش حالته بأقصى ما يستطيع كأفضل وسيلة للتخلص منها.
    تتغلغل الجدية إلى أبعد مدى في ملامحي عندما أمنحها اهتماماً قلقاً من تأثيرها على التواصل السلس، وتصير الابتسامة المتشققة عصية على الإزالة بحيث لا يمكن أن يمحوها سوى قرار حاسم بالخروج إلى سياق جاد، وهذا ما لا يفضّله الأصدقاء، ناهيك عن أن حديثي المعرفة بك يصنفوك، بناءً على هذا، في خانة الغامضين، رغم أن الأمر يتعلق بعدم رغبتي بالضحك في أي وقت على الأرجح، وباكتفائي بالقليل منه مقابل استمتاعي بالارتياح المنبعث من داخلي وليس بتدخل من الخارج. يصيبني الملل من قصدية صنع الأجواء المرحة، كما أشعر بالقرف من استهلاك المرح لأقصى مدى أو تبادله مع من حولي. ربما ليس "القرف" وصف مناسب لهذا الشعور، لأن ذلك لا ينطبق على الحميمية مع أصدقاء قريبين يتفهمون انفصالك عنهم في أي وقت أثناء جلوسكم في مكان واحد كما يتفهمون العودة للتواصل بين وقت وآخر، فيما يستطيعون خلال ذلك أن يجدوا لأنفسهم ما يفعلونه. هناك مشكلة فعلية حسبما أرى أحياناً؛ أن يكون بمقدوري قضاء وقت غير محدود مع نفسي، بينما لا أستطيع أن أتشارك مع صديق أو مجموعة أصدقاء وقتاً مرحاً لساعتين أو ثلاث على التوالي، بدون أن أصمت ثلث هذا الوقت على الأقل، أو أشعر بالإنهاك من الرفقة. هل هذا ما يسمونه الانكفاء على الذات؟
    قليلون هم الأشخاص الذين أستطيع قضاء وقت طويل معهم دون أن أشعر بالملل أو أتحوّل إلى شخص ممل، وقليلة جداً هي الأوقات التي أكون فيها بمزاج مناسب للتحدث مطولاً، وهذا يشعرني بالتعاسة، لأن الأوقات التي تتطلب الحديث المطوّل صارت أكثر من قدرتي على مجاراتها، أو رغبتي بذلك، إذا كان لا بدّ من جلد الرغبة هنا. ومع ذلك، لا أجد الدافع لملء ذاكرتي بالمواقف المضحكة لإشهارها في وجه الملل في الرحلات وجلسات الأصدقاء أو أشخاص آخرين يفهمون الصمت ضمن صفات الشخص الانطوائي.
    من وجهة نظر الأطباء النفسانيين وخبراء التنمية البشرية، تعتبر حالتي خللاً في نظرية التواصل الاجتماعي، ومن هذا المنطلق، سأكون حالة غير طبيعية في هذا النظام. لكن احترامي لضرورة التواصل الاجتماعي ولخبرائه أيضاً، لا يجعلني أتواطأ ضد رؤيتي الخاصة في التواصل، وبالمثل، مقدرتي على ذلك. ليس بالضرورة أن يتساوى جميع الأشخاص في القدرة على التواصل. وذات مرة، بينما كنت أفكر بحالتي كمشكلة، طرأت لي فكرة بأن من يحرصون على التواصل بشكل دائم هم بالأساس عاجزون عن قضاء معظم الوقت بمفردهم، لكن فكرة كهذه ليست بمنأى عن الاتهام بـ"الحيلة الدفاعية".
   ما الذي يبقي ملامح الاتزان في كلامك إذا لم تتسم بالجدية؟ رغم معرفتي بأني لست جدياً في أمور كثيرة تخصني إلى درجة الهزأ من الاتزان، إلا أن الفوضى تجد عوائقها في الملامح المتزنة لشخص يمارس فوضاه على استحياء من ملامحه الجادة. تلك الملامح الجادة هي التي تجبرك على الاتزان وتحملك على اتخاذ قرارات صالحة ظاهرياً، من قبيل التورّط في نيل ثقة المجتمع من حولك كشخص مسئول إلى درجة قصوى، مع أن طبيعة فوضوية بداخلك تطفو على شكل تذمر مزمن من الاستجابة لملامحك الجديرة بثقة الآخرين، في حين لم تستجب لطبيعة تشغل حيزاً كبيراً من تكوينك النفسي، وهي أساس ثقتك بنفسك.
   كونك محكوم بملامح جادة وذات فوضوية، ذلك يعني أنك محكوم بالتأتأة في كثير مما تفعله أو تقوله، إلاّ إذا كنت ستلجأ للعدائية، ولنقارب بين التأتأة والتناقض كي نرى إذا ما كان بينهما مشتركات تستحق المقاربة؛ استمرارك بالتأتأة يدفع بك إلى مرمى السخرية، وتواصلك مع تناقضاتك يبقيك مراوحاً في حالة الفعل المشتّت واللافعل. يستدعي الأمر إذاً الكثير من الجدية كي تحسم الموقف، استباقاً، في وجه سخرية الآخر من جهة، والتردّد الذاتي من جهة ثانية. لكنك لن تنجو إذا لم تدع متنفساً لبعض السذاجة تفادياً لنفور الآخر منك، فيما نسميه في الغالب: "التفويت". هل هكذا يعيش كل الأشخاص المحكومين بالتأتأة، أم أن جميعنا محكومون بتناقضات غير معلنة؟ أعرف كم تخفي القيم من تناقضات جبانة.
   أتساءل من جديد: هل أسرف في استخدام الجدية أم في استخدام العقل؟ إنه سؤال لا ادري حقيقة كيف تركّب في ذهني! إذا كنت هنا بصدد مقاربة ما، فسأقول إن حياتي تمضي عفوياً مثلما تركّب هذا التساؤل، دون أن يعني ذلك أني لا أجيد التخطيط عندما أراه ضرورياً. لكن حياة تمضي في الغالب بعفوية وجدية قلقة، تستدعي أن يسأل صاحبها: لماذا ترهقني الجدية بهذا القدر؟! بدلا من السؤال: لماذا أبدو على هذا القدر من الجدية؟