منذ سنوات طويلة لم يتحدث أحد عن اليسار في اليمن بوصفه تيارا ذا فاعلية سياسية واجتماعية، حتى اليساريون أنفسهم طالما اختزلتهم تسمية "الحزب الاشتراكي اليمني" أو الأحزاب الأخرى التي تفرعت عن الجبهة القومية منذ ستينيات القرن العشرين.
قبل أيام نظم مجموعة أشخاص -بعضهم يساريون- ندوة عن الحلم بعودة اليسار؛ خطوة جيدة وجريئة بالمقارنة مع ما لحق بالهوية اليسارية من تنكيل أبقاها طي الكتمان أو التحفظ في أفضل الأحوال. الجرأة ذاتها، إضافة إلى ما تضمنته أوراق الندوة، أظهرت الحلم بعودة اليسار كما لو انه محاولة أخرى لضرب الحضور اليساري، على شحّته، في الصميم.
من كان يجرؤ على مجرد تحريك شفاهه بما يشير إلى هويته اليسارية؟ بعد ثورة سبتمبر كانوا شيوعيين (كانت هذه تهمة)، في السبعينات مخربين وفي الثمانينات عملاء لحكومة الجنوب. الفترة الوحيدة التي تنفس فيها اليساريون طالتهم الاغتيالات لأكثر من 3 سنوات بعد إعلان الوحدة في 1990، رغم انتهاء برنامج الكفاح المسلّح الذي سبّب لليسار والمتعاطفين معه أسوأ موجات التنكيل. ومنذ صيف 94 صار اليساري انفصالي نسبة إلى ظرف سياسي لم يكن له علاقة به سوى ببطاقة انتماء للحزب الاشتراكي أو موقف ناقد للسلطة السياسية والدينية. ظل اليسار كهوية فكرية محصوراً ببعض الكتاب والمثقفين، وتدريجياً جرت محاولات اختراقه عبر زحزحة القيادة المتعاقبة لاتحاد الأدباء، ونعرف كيف جرت آخر انتخابات للاتحاد في عدن.
سياسياً أصبح الحفاظ على الانتماء الحزبي للاشتراكي أو التجمع مرتبطا بالحفاظ على ماء الوجه بعد موجات التسرّب إلى المؤتمر الشعبي أو غيره من الأحزاب غير اليسارية، واجتماعياً تم ضرب القبول الذي كان يحظى به الحزب، نتيجة تبنيه العدالة الاجتماعية كمبدأ أساسي من مبادئه، بوصفه "مفسدة" أخلاقية بشكل مشوّه. كرّست قوى اليمين صورة اليساري كمسئول عن جرائم الحرب وخيانة الوطن وعداء الدين، ولم تكن مهمة الفقيد جارالله عمر و د. ياسين سعيد نعمان وقليلون غيرهما، سهلة لترميم ما تصدع من صورة اليسار. اقتضت الضرورة خروج اللقاء المشترك إلى النور كتحالف سياسي.! هذا ما يقوله كبار اليسار واليمين ضمن محاولات ردم الهوّة وتجنّب الصدام الأيديولوجي.
شخصياً، أجد الدعوة لإعادة بناء الحزب الاشتراكي الآن تحت شعار "عودة اليسار" إساءة فجة لدم جار الله عمر ورفات عمر الجاوي ووقار ياسين سعيد نعمان كأشخاص نحتوا رمزيتهم اليسارية بقناعات لم تتآكلها الأوقات العصيبة، كما هي إساءة لجيل يساري الهوى تشكل في ظروف استحواذ رأسمالي استنسخ من الليبرالية ليبرالية جديدة بمبادئ نفعية بالغة البشاعة. لا ينطلق هذا الموقف من استهجان طوباوية الماركسية كما هو الحال عند الكثيرين من الأصدقاء والزملاء، قناعتي أن الانجرار إلى حلم عودة اليسار إيغال في ضربه كهوية صار يستنكف منها الطموح بالرفاهية، رغم أن الهوى اليساري لا يمنع أحداً من امتلاك منزل أنيق على طراز المعمار ما بعد الحداثي وسيارة مصممة بمواصفات السوق الحرة.
أسخف ما قرأته عن ندوة "عودة اليسار" ذلك التصور الذي يدعو لإلباس اليسار ثوباً إسلامياً، واعتبار رأس قيادة الاشتراكي حاليا "قوى تقليدية". رأس الاشتراكي هو ياسين سعيد نعمان، وألتمس العذر من بقية القيادات حين أقصر الحديث على هذا الرجل لاعتبارات أفترض أنهم لن يعترضوا عليها. صحيح أن الاشتراكي مرّ بفترة ركود أفضت به إلى وضع لم يحتمله كثيرون من منتسبيه أو المراهنين على حضوره السياسي، لكن المبالغة في القسوة غير موفقة بتاتاً.
إشهار عودة اليسار في الظروف الراهنة حماس يسهل امتصاصه وتوجيهه إلى مقبرة شعارات لا تختلف عن الخطاب الشعاراتي الذي اتسمت به قوى اليسار في بداياته وظلت تجتره بيانات المؤتمرات العامة وافتتاحيات الاجتماعات الحزبية.
الجيل الجديد من اليسار اليمني يستخف بهويته التي يخفيها بدافع تفادي التندّر عليه وليس الخوف من المعتقل كما في السابق مع أن كلا الأمرين تنكيل. ذلك ما فعله خطاب التسفيه الذي طال عمق اليساري، مستعينا بشواهد الانهيار العالمي لمنظومة الشيوعية الراديكالية وشواهد محلية أخفّها مجزرة 13 يناير والملف الظاهر من حرب صيف 94. لا تستند هكذا محاولة لإعادة اليسار إلى رؤية واعية بالهويات الأخرى المحيطة به، سيما التي تشكلت منذ العام 90 على رقعة جغرافية موحدة. وهذا ما يجعل أفضلية الإبقاء على الهوية اليسارية في مكانها خيار مناسب، كي لا يبدو أنيس يحيى مدفوعاً –بقصد أو دون قصد- حين يحمد الله أن الحزب الاشتراكي لا يمتلك قوة عسكرية تفادياً لاستمرار التصفيات بين أعضائه.
كانت المحاولة التنظيمية الأكثر وعياً هي التي أقدم عليها عمر الجاوي حين أسس حزب التجمّع عقب إعلان الوحدة، أما في ظروف كهذه، فلن تعدو المحاولة-على افتراض نزاهتها- أكثر من تمهيد لاستنساخ (ظلّ يسار) مجرداً من روحه.