عدن التي لا تكف عن منح صكوك الغفران


  الذين كتبوا عن عدن أكثر من الذين تنفذوا فيها وعبثوا بمقدراتها، منذ رامبو وبول سيزان، منذ سعدي يوسف وعبدالله البردوني. عديد كتاب وصحفيون مرّوا هنا ولم يملكوا سوى الإصغاء لسمو المكان والكتابة بإحساس كبير من التسامح المتغلغل في كل زقاق. لكن لا الكتابة أثنت العابثين ولا عدن توقفت عن منح صكوك الغفران.
  الطريق إليها من أي اتجاه لا يحمل أي مؤشر عن ملامحها غير العابئة بمرور الزمن، وحده طريق البحر من يقول لسالكيه: عما قليل تصلون مدينة يمكن أن تتخذوها موطنا دائماً. ومن يستطيع أن يتغافل إغواء الترحاب الذي تغدقه المدينة على العابر والمقيم؟ عدن مدينة هواها بحري بامتياز. هنا أقام المستعمر والنازح وهنا تعايشت أعراق بشرية وافدة من أرجاء العالم، على مينائها تعاقب الغزاة واحداً تلو الآخر، وفي أزقتها تشكلت حركات التحرر عقب كل غزو، ومثلما لم تطرد لاجئاً إليها، لم تحتفظ أي من شوارعها باسم "التحرير" كما هو الحال في مدن يمنية أخرىٍ.
   شوارع عدن تحمل أسماء كبارها الذين أحبوها وأعطوها أكثر مما أعطتهم. عبدالنبي مدرم، قحطان الشعبي، لطفي أمان، محمد سعد عبدالله...، وليست الصفحة هنا بفساحة عدن كي تتسع لجميع الأسماء، لكنها المدينة الأنسب للاحتفاظ بتألّق الأسماء التي تطلق على الشوارع  والمرافق العامة، وفيها لتداول أسماء هكذا شوارع وأحياء نكهة اقتناع بتناسب التسمية مع المكان، وهو اقتناع تحمله نبرة الصوت العدني الذي يصف لك كيفية الوصول إلى بنشري مناوب بعد منتصف الليل. كانت رغبتي في تكرار سماع أسماء شوارع الشخصيات أكثر إغواءً بحيث ألهتني عن إعلان اهتمامي بقلق صديقي من تمزق إطار سيارته نهائيا. لكن هذا ما يحدث للإطارات المثقوبة في مدينة لديها ما يجعلها محبوبة دائماً.
   لن أتحدث عن الشوارع التي تغيرت أسماؤها، وصارت تحمل أسماءً حديثة العهد بعدن، ولن أمعن النظر في واجهات البنايات التي تغيرت ملامحها بحذر وخجل واضحين من عراقة الطابع العدني وبنايات الطراز الاستعماري. لكني سأفكر بالاتصال بنجيب يابلي، نجيب صدّيق، ميفع عبدالرحمن، الكابتن عوضين، مبارك سالمين، وحين فكرت أني سأسألهم عمّا إذا كان هناك شارع باسم فقيد الأدب عبدالرحمن إبراهيم أو فقيد الفن فيصل علوي، عدلت عن فكرة الاتصال بهم لأني أعرف أن ذلك لن يحدث على المدى الطويل. مثل هذه الأسماء كان بالإمكان أن تصير أسماءً لأحياء وشوارع، ولي أن أتصوّر لقاء الكابتن عوضين مثلاً، في شارع يحمل اسمه.
  عوضين الكبير:
   معد ومقدم برنامج مجلة التلفزيون الذي ألهب حماس جماهير الرياضة بتعليقه على مدى عقود من الزمان، وببرامجه الإذاعية والتلفزيزنية، التي عصر فيها خلاصة تجربته وخبراته، عوضين الذي دخل قلوب الجماهير، لم تمكّنه البيروقراطية الإعلامية من مواصلة تلك البرامج في الإذاعة والتلفزيون. رغم ذلك مازال الشغف يدفعه لمتابعة مباريات كأس العالم 2010 بعين الخبير الرياضي المحترف دون اكتراث بالأضواء المسلّطة على المحللين الرياضيين في استديوهات الفضائيات.
   لعوضين معرفة واسعة بتاريخ الرياضة اليمنية ونجومها في أنحاء الجمهورية، وبين الأعوام 1992 و1997 جاب مختلف المحافظات وجمع تاريخ أكثر من 350 نجم رياضي وظل يبث عبر تلفزيزن عدن حلقات عنهم حتى العام 2000. الآن لا يتذكّر أحد في الإذاعة أو التلفزيون هذا النجم الذي جمع سيرة زملائه ولم يعد مرغوبا به في استديوهات التلفزيون. وقبل أشهر افتتحت قناة سبأ استديو لها في عدن، لكنها لم تتذكّر أن في هذه المدينة قامة كبيرة بحجم جغرافيا وطن الوحدة.
اليسار الآيل للاندثار:
  عدن التي استوعبت التعدد الأيديولوجي، غلب عليها الطابع اليساري. هذا ما يعرفه الجميع، وتعرف الغالبية أن النبع الذي ظل يغذي الوجود اليساري في اليمن كان اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، الذي لم يطاله التشطير منذ تأسيسه.
   في مايو الفائت احتضنت عدن إجراءات انتخاب المجلس التنفيذي لاتحاد الكتاب، وبدت الانتخابات ماراثون متوتر للحفاظ على البقاء، ومايشبه حربا سياسية استهدفت المكانة الرمزية لليسار. وهي المرة الأولى التي تظهر محاولات المؤتمر الشعبي العام بشكل لافت لتقليص الحضور اليساري في الاتحاد. بعض الحاضرين تحدثوا عن توزيع مبالغ مالية باهضة لاستمالة أصوات المقترعين إلى صف المؤتمر الحاكم، فيما أسفرت نتيجة انتخاب المجلس التنفيذي عن خسارة اليسار واليمين المؤتلف سياسياً (المشترك). لم يكن تداول النتائج فيما مضى يتم بالإشارة إلى التكتلات السياسية بل إلى الأشخاص الفائزين بما هم عليه من حضور في الساحة الثقافية والأدبية، لكن الآن (الفائزون للمجلس التنفيذي من "المشترك" يريدون انتخاب توافقي للأمانة العامة مع المؤتمر الشعبي).
   في انتخابات الدورة العاشرة هذه دار الحديث عن نقل الأمانة العامة للاتحاد إلى عدن مع بقاء مقر المجلس التنفيذي في صنعاء، لكن مقترحاً كهذا، رغم أهميته على المستوى السياسي رمزياً، لم يكتب له أن يرى النور، لكن الوقت لم يمض بعد، فالمفاوضات حول التوافق مازالت قائمة.
   هل كان الأدباء والكتاب/ مؤسسو الاتحاد يسمحون لطرُق التسويات السياسية أن تقتحم اتحادهم؟ مع ذلك، وبالعودة إلى خصائص عدن كمدينة، فهي تحتضن أي مناسبة دون اكتراث لمدلولاتها السياسية، النكهة السياسية الوحيدة التي لم تطمرها التحولات هي نكهة الحزب الاشتراكي والحنين إلى أيام كانت علب الحليب توزع مجانا إلى البيوت مساءً. الكثيرين من أهالي عدن ومثقفيها تأقلموا مع وضع ما بعد الوحدة والحرب، الكثيرين حين تراهم، تتحدث إليهم تظهر في عيونهم وفي كلماتهم تهكمية عالية تخرج عن أي موضوع جاد، سيما إذا كان سياسيا أو فكريا. لكنها في معظمها، سخرية العقل الكبير الذي يعي أن الحماس والتآكل اللحظي لخلايا المخ وعضلات القلب لن يفيد شيئا الآن. إنه تحول ليس بسبب الوضع السياسي محليا فحسب، بل بتأثير من تحول عالمي لا يصب في صالح الحماس الأيديولوجي.
تحتاج عدن لنظام سياسي قوي بحجم أهميتها:
   حين احتل البرتغال عدن لم يكن فيها ما يغريهم سوى موقعها الجغرافي عالمياً، وحين احتلها الانجليز كان للموقع ذي الأهمية العالمية دور في اجتذاب انتباههم. هذا هو الوضع الطبيعي لعدن التي لا يستطيع أحد أن يمنّ عليها عطاءً. عدن مدينة التدفق الاقتصادي والرخاء العام، لكنها حين تدار بعقليات لا تتسم بالانفتاح العالمي لن تعود أكثر من مرسى المستفيد الوحيد منه أصحاب السياسات الاقتصادية الأكثر ذكاءً.
   ميناؤها الذي بلغ عدد السفن الواصلة إليه في الخمسينات أكثر من (5000) سفينة سنوياً، تصله الآن أقل من (500) سفينة. آلاف العمال الذين شكّل عملهم في الميناء مصدر إلهام للعديد من أغاني العمل وكتابات الأدباء والرحّالة، يرزحون الآن تحت وطأة الظلم ومحاولات للاحتيال على حقوقهم. من الذي سيشغل الميناء إذا كانت الحكومة لا تتعامل معه سوى كونه مصدر للإتاوات فقط، ومعبراً لتهريب النفط والغاز بغطاء رسمي؟
   في عدن ذات المقومات الاقتصادية والسياحية الجبارة لا يوجد أكثر من فندقين 5 نجوم و(3) حدائق عامة. لن تجد لافتة معلقة في شارع أو نشرة مطبوعة في مكتبة عن آثار مدينة عدن، وكأنها مدينة بلا تاريخ، وستجد أن جيل الشباب متأقلماً مع البطالة ومسكوناً بالأمر الواقع. تحتاج عدن لحضور سلطة الدولة أكثر من أي محافظة أخرى، لأن الطريق لأي تدخل أجنبي ينوي الإقامة طويلاً في اليمن سيأتي من حيث دخل الكابتن هينس في العام 1839. وعندئذ سيكون لهذا القبطان الحق في تسمية أحد شوارع عدن باسمه.
  


مشهد من ملامح العيد العشرين للوحدة في عدن:
      بعد ما يقارب نصف الشهر على مرور الذكرى العشرين للوحدة، تبدو الملصقات الاحتفائية بالمناسبة، على طريق خور مكسر كريتر، يتيمة بجانب لوحات الدعاية التجارية، سيما مهرجان "صنع في اليمن" وشركات الإعمار. الشوارع أفران مفتوحة نهاراً ومسكونة باحتمالات دخول عناصر الحراك إليها ليلاً. ستجد نقطة تفتيش استحدثت بداية المساء في مدخل كريتر تستوقف سيارات معينة بما يوحي أن بلاغاً محدد المعالم تلقته أجهزة الأمن فاستعانت بجنود المرور لتفحّص أوراق المركبات المشتبه بها. رغم ذلك لا تلاحظ فقدان الشوارع لوداعتها نهائيا- ولذلك علاقة بحضور شرطة مدنية كالمرور ربما- لكنك ستلحظ بعض التوتر بين سائقي السيارات حين الاختناق المروري في شارع ضيق. اما إذا تصاعد التوتر إلى مرحلة الشجار، فلن يخلو كل شجار من استدعاءات وتعصبات "أبناء المناطق" مع بعضهم البعض، حتى إذا كان التدخل يأخذ شكل فض النزاع. لكن الحديث عن التوتر المناطقي فقط لن يكون منصفاً إذا ما أخذنا بالاعتبار السمات التسامحية التي تسكن عدن وتؤثر في نفوس ساكنيها مثلما تبعث الخجل من العنف في وجوه زائريها الفوضويين. لهذا نجد عدن بعيدة عن أن تكون يوماً ما مدينة للأحقاد.