الجمعة، 16 يوليو 2021

العيد الأخير للجدة

 

من أفرغ قلبي من حبه سوف يملأه بالنقمة عليه.

  قالت جارتنا العجوز وهي تحصي أحفادها للمرة الأخيرة. بالطبع، لم تقل ذلك بهذه الفصاحة، لكن أهازيجها تضمنت المعنى ذاته. صوتها الذي ظل خافتاً منذ خمس سنوات، كان يغرد بنعومة واهنة، بينما توزع حلوى العيد على الأحفاد وتنهرهم كلما اقتربوا من الأضحية التي يجري سلخها على قدم وساق. يلتقط الأحفاد حبها مع الحلوى المنفوشة فوق التراب الندي، ولا يأبهون للعنات التي تعبرهم نحو آبائهم وأمهاتهم.


  مريم السنانية؛ هذا هو اسم شهرتها منذ جاءت إلى قريتنا مزفوفة على هودج وخمسة جمال في موكب عرس غير مسبوق. جدتي تتذكر ذلك اليوم لأن موكبها حين زُفت لجدي، كان ينقصه جملين عن موكب "السنانية"؛ المرأة التي حلّت معها البركة منذ نزلت من هودجها، كانت كريمة لدرجة استقبال ضيوف زوجها في غيابه، ومع ذلك لم تجد ما يمنعها عن المجاهرة بتحقير أي شخص تقرّر طباعها القوية أنه يستحق ذلك. لا يشمل ذلك ضيوفها بالطبع، لكنها قد تعبّر عن انطباعها إزاء أحدهم بوصف يلتصق به كجلده، كما فعلت مع "صالح شَلَش" لأنه كان مولعاً بالمآزر ذات الأطراف المزينة بخيوط مفتولة ومطرّزة بدوائر لامعة. بعضهم كان يشكوها لزوجها المنصرف غالباً لفلاحة أرضه وتسويق الحبوب إلى المدن البعيدة، لكن الأخير لا يتمالك نفسه من الضحك حين يسمع اللقب الجديد، وبعدها يربّت على لسان الشاكي بقطعة من "حلوى الحلقوم" التي لا تخلو منها جيوبه. قد يدعوه للغداء يوم الجمعة إذا كان الشاكي لجوجاً، حيث سيقتص له من "أمّنا مريم" على مسمع منه. في الواقع، كان بيته مضافة شبه يومية بوجوده أو في غيابه، وفي يوم الجمعة قد يصدف أن يجتمع عدد لا بأس به من أصحاب الألقاب الرفيعة، بمن فيهم هو نفسه؛ "قاسم المحفّة" نسبة إلى ولعه بعطر الموتى فقط لأن اسمه "جنّة النعيم". مات قاسم السنة الماضية في عمر التسعين، ولم تعد مائدته البسيطة تقدم في تلك الغرفة الطويلة ذات الباب المفتوح على الطريق. كان للغرفة نافذة صغيرة على الجدار الداخلي لتقديم الطعام بدون الحاجة للخروج من باب الدار، وكانت الحجة مريم هي من اقترحت بناء الغرفة لتقديم واجب الضيافة وإطعام عابري السبيل. لاحقاً أصرّت على بناء سور للبيت بعرض غرفة الضيافة، على أن يكون بابه من الجهة الأخرى. هناك اعتادت أن تجلس مساءً على ضوء فانوس الكيروسين، وتنشد الأهازيج التي طالما شدت بها واقفة وراقصة حين كان جسدها قادراً على ذلك.

  لم تكن تعرف ما هو الشعر، لكن صوتها العذب كان يشدو بأهازيج الحطابات وجالبات الماء قبل شروق الشمس، وطالما دربت الفتيات على أهازيج المساء. كانت تجمعهن في الباحة الخلفية للدار ولا تسمح للأولاد بأن يقتربوا من المكان. وبعد أن صار لديها جوقة لا تقل عن عشرين فتاة، بدأت بتقسيمهن؛ ثمان يهزجن واقفات، والبقية تضمهن لجمهور النساء والأطفال والعجائز اللاتي يحرصن على حضور الحفلة. رغم ذلك، لم تكن تتصلب إزاء إصرار بُدور "السجّاجَة" على قصّ بعض من حكاياتها الغريبة. تعرف بدور الكثير من قصص العفاريت الذين يخطفون الفتيات الجميلات، خاصة من يتأخر زواجهن، وكانت الفتيات يستغرقن في الخيال لدرجة السرنمة أثناء نومهن. الحجة مريم أيضاً لم تكن تستطيع مقاومة إغراء الإنصات لحكايات بدور، وحين كانت تسألها من أين تأتي بكل تلك الحكايات، تجيبها بنفس السؤال: " وانت من وين تجيئي بالمهاجل"؟

   كانت مريم السنانية تؤلف الكثير من الأهازيج اعتماداً على ما تحفظه وعلى ثراء حياتها بتفاصيل تعيشها ابنة مزارع كبير وزوجة مزارع وتاجر. وهكذا ظلت تقود جوقتها بصوت شجي استعصى على الشيخوخة حتى بلغت الثمانين. كم كبرت من الفتيات وتزوجن وأصبحن أمهات وجدّات خلال هذا العمر، بدون أن تملّ مريم، الأم والجدة، من تلقينهن الأهازيج وتعليمهن رقص "البالَة" في الليالي المقمرة. جيلاً تلو آخر جمعتهن بعد كل صلاة عشاء؛ ثلاثة صفوف في كل منها أربع فتيات والبقية في المكان المخصص للجمهور. تمشي الفتيات متشابكات الأيدي إلى الامام وإلى الخلف، في تناغم أزلي مع إيقاع اللحن الذي لم يمت في الأفواه منذ مئات السنين. كان لدى قائدة الجوقة أهزوجة أثيرة تحتفي فيها بذكر مسقط رأسها: الجَنَد؛ حيث أناخت راحلة مبعوث النبي محمد، وحيث أسس معاذ بن جبل أول مسجد في بلاد سبأ وحِمْيَر.

"يا طولقة بالجَنَد ردّي عُزيرك بَرُودْ

تحتك عيال الهوى سبعة سهارى رقودْ

منكّسين السلاح مُندّشين الجُعودْ

وبينهم فاطمة تقرا الثلاثة العهودْ"

   على هذه الأهزوجة درّبت جوقتها على الغناء، وقيمت أداء عضواتها بناءً على إجادتها بدون أن تسمح بأي قدر من النشاز. وسواءً خلال التمارين أو الأداء النهائي، برعت مريم في التعبير عن حسها الفني بناءً على شعورها بالنفور والرضا. ذات مرة قالت لفتاة كانت كثيرة التنشيز: "صوتك يخرج من المَهجَل مثل أسنان أمك الجَهْصاء." منذ ذلك الحين، لم تجرؤ فتاة على الانضمام للجوقة ما لم تكن الأسنان الأمامية لأمها مستقيمة أو تثق بأن صوتها جيد للغناء. في الحقيقة، كانت لمريم فراسة ثاقبة للتمييز بين الجيد والرديء، وبالمثل، التعرف على الحب والكراهية من ملامح الوجوه، السلوك، وردات الفعل إزاء كلماتها الحادة.

  لم تقتصر فراستها تلك على أداء جوقة "المهاجل". إذ مع مرور الزمن، صار جميع أهالي القرية مؤمنين بأن النباهة والصراحة وحسن تقدير الأمور، ليست مجرد صفات مكتسبة لديها بقدر ما هي طباع ولدت معها. بهذه الطباع، عاشت حياتها، وتعاملت مع الصغير والكبير، القريب والغريب، كلاًّ بما يستحق. بالنسبة لأحفادها مثلاً، تقول لأحدهم: "سير اشتري لي حبّتين بندول من الدكان"، وعندما تلمح تلكؤه، تضيف قبل أن يرد عليها بالرفض أو يختفي من أمامها: "... وخذ لك عشرة ريال من الباقي". موقف كهذا لا يمر مرور الكرام بالنسبة للجدة التي عرفت كيف توظف شيخوختها وأحفادها العصاة لتوبيخ أبنائها وزوجاتهم وبناتها وأزواجهن. بعد أن يجلب لها البندول تسأله للتأكد: "شليت لك عشرة؟" يهز رأسه بالإيجاب، فتنقده عشرة ريالات أخرى: "زيد شلّ هذي يا ملعون الوالدين. قدني دارية ان نفسك تفلُت على البِيَس مثل امك"، أو "مثل أبيك." تقول للحفيد المتلكئ.

  رغم ذلك، ومنذ أقل من سنة فقط، كفّت عن لعن ابنها الذي ذهب بدون علمها إلى جبهات الحرب، وأُعيد إليها بعد ثلاثة أشهر في صندوق. عوضاً عن ذلك، كالت شتائمها الفاحشة ولعناتها لزوجته التي لم تحاول منعه من الذهاب إلى حتفه، تاركاً وراءه ثمانية أطفال سيكون على الجدة تربيتهم إلى نهاية حياتها. الحياة التي لن تطول كثيراً على أية حال. بعد أسبوعين فقط من دفن ابنها "الشهيد"، وصلت أشلاء "شهيد" آخر من العائلة في صندوق أصغر من الأول، لكنه هذه المرة زوج ابنتها، وهو قبل كل شيء ابن أخيها. بذلك ازداد عدد الأحفاد الذين عليها رعايتهم إلى ثلاثة عشر، وتضاعف الحزن الذي حاولت إخفاءه وراء كلماتها الحادة ونظراتها المشوشة بالمياه الزرقاء. ذلك الحزن الغائر منحها القوة لتعيد توزيع لعناتها وشتائمها الفاحشة بالتساوي على ابنتها وزوجة ابنها المترملتين. ولكي تعيل اليتامى، فرضت على أبنائها وأصهارها مبلغاً شهرياً لا يقل عن خمسة آلاف ريال. في نهاية كل شهر قمري، تذهب إلى سوق المديرية برفقة أشرف- الولد البكر لابنها الرابع. كان أشرف الحفيد الوحيد الذي يرفض النقود مقابل خدمتها، وكان أيضاً الوحيد الذي يعرف ما تحتويه شوالات الخيش والنايلون الأبيض والصناديق الخشبية المتراكمة في مخزن الدار. كانت تثق به وتحب أمه لدرجة تعيير نساء العائلة بأنهن لا يساوين شيئاً أمامها.

  هكذا احتفظت الجدة بتلك القدرة النادرة على التنقل، في نفس اللحظة، بين القسوة والحنان الغامر، وبين الشتائم الفاحشة وتبجيل الفضائل. تعرف أيضاً كيف تزيل الشفرات من ضغائنها، وكيف تكسو قلبها بالطيبة والدفء، دون الحاجة إلى لغة مهذبة وأسنان ثابتة. كانت حين تغضب من الأحفاد اليتامى، تمطرهم بالشتائم: "يلعن أماتكم اللي ما قدرينش يصبرين بعد ازواجهن حتى سنة. مستعجلات على البودرة وفشخ الأرجل... الله يحفظك يا رقيّة. مَرَه تسوى ألف". تقول ذلك غير عابئة بأنها كانت أول المباركين لتزويج الأرملتين. لم تتحفظ أبداً حين تشعر بإلحاح رغبتها في اللعن، وطالما أمعنت في الشتم كلما ضحك أفراد العائلة الكبيرة والجيران على ذلك الفحش وتلك العصبية الملازمة لصوتها وملامح وجهها المثلّث. لكنها عندما تأوي إلى سريرها الحديدي، تجول بنظرات صامتة وغائمة على الأحفاد اليتامى وقد استلقوا على مراتبهم الإسفنجية الرفيعة؛ الأولاد السبعة رؤوسهم بمحاذاة الجدار الخارجي والبنات الست بمحاذاة جدار الدّرَج، في الاتجاه الذي تضع الجدة رأسها إليه؛ "جهة القِبلة". في وسط الغرفة الطويلة، تلتقي أقدامهم الصغيرة فتبدأ معارك النكاية الطفولية، والشكاوى التي توقظ لعنات الجدة. لكنها لا تلعن، بل تنادي بُدور من الغرفة المجاورة لتحكي لهم بعض الحكايات الخالية من العفاريت.

  كانت الجدة تنام قبل أن تنتهي بدور من حكاياتها التي التقطتها طيلة عشرات السنين من التنقّل المستمر بين بيوت القرية والقرى المجاورة. لم تعد تُخضع تلك الحكايات لخيالها الغرائبي فتخرج متلبّسة بالعفاريت كما كانت تفعل؛ لقد كان ذلك السبب الأول لتعامل نساء القرية معها بعدائية. وللتخفيف من تأثير حكاياتها على بناتهن، سمّينها بالسجّاجة لكثرة تنقلها في البيوت. بعد سنوات من زواجها، أصبحن يتداولن تأويلات من قبيل أن الله حرمها من الإنجاب لأنه لم يأتمنها على أطفال ترعبهم بحكاياتها. بهذه الفكرة الجهنمية نجحن في النيل منها. ومنذ ذلك الوقت، ظلت تكرر تأكيدها على أنها قطعت علاقتها بالتشويق العفاريتي، لكن الأهم من ذلك، أن الجدة سوف تغضب في حال أيقظها صراخ حفيد راوده كابوس أثناء نومه أو إذا سرنمت إحدى الحفيدات. فمن ناحية، كانت الحجّة المرأة الوحيدة التي لا تنادي بدور بالسجّاجة، ومن ناحية أخرى، كانت تدافع عنها وتتعاطف معها لأن "الله حرمها من الخِلفة". وبعد شهور قليلة من اختفاء زوجها في ظروف غامضة، عرضت عليها الإقامة في الدار والاهتمام بالأبقار مقابل الحصول على الربع من كل رأس يولد على يدها. كانت دؤوبة في خدمتها، وحكاياتها خالية بالفعل من العفاريت الأشرار، لكن لم يكن بمقدورها تخفيف الحسرات التي تأكل قلب العجوز.

   كان الحزن يفتت قلب الجدة بصمت. لقد احتملت رحيل زوجها منذ عشر سنوات، لكنها الآن لم تعد تقوى على احتمال موتين آخرين. عصر أمس، "يوم الوقفة"، خرجت من باب الدار متكئة بيدها اليمنى على العصا وبالأخرى على كتف أشرف- حفيدها البار. طلبت منه أن يجمع كل الأحفاد إلى الباحة. كانت تلك عادتها منذ أن مات الجدّ، وهكذا كان الدار ذي الطوابق الثلاثة يتحول منذ يوم الوقفة حتى عصر يوم العيد، إلى خلية نحل عمودية. لن تسمح لهم بالمغادرة إلا بعد غداء العيد. جمع أشرف الأحفاد ومعظمهم أطفال، وبدأت الجدة بإحصائهم. أحصت سبعين حفيداً وقالت إنهم مائة. وحين ذكّرها أشرف بأن أبناء الأحفاد الكبار لم يحضروا، قالت بنبرة توكيدية: "ميّة وخمسين". بقيت في الباحة الأمامية حتى قبيل المغرب تذكّرهم بعددهم وتأمر بعضهم برشّ الماء خارج سور الدار حتى لا تتعفر ثيابهم الجديدة بالغبار أثناء لعبهم في اليوم التالي. آخرون كلّفتهم بريّ أشجار الرياحين، وجلب المزيد من الماء من خزان البئر أسفل القرية.

  كنت أراقب تلك الحشود متفاوتة الأحجام من سقف بيتنا الذي لا يبعد عنهم بأكثر من عشرين متراً. لقد أحببت الجدة مريم السنانية بقدر ما أحببت جدتي، كما أحببت حكايات بدور وتمنيت خلالها أن أتحول إلى عفريت. وفي كل مرة تجمع أحفادها في العيد الكبير، أفكر بأنها مهما استطاعت أن تجلب لهم ما يكفيهم من الحلوى و"الجعالة"، فكيف تستطيع أن تغمرهم بعاطفتها المتأرجحة بين حنان الجدة وتقريعها اللاذع. وفي صباح عيدها الأخير، خرجت باكراً وجلست على حصيرتها الخضراء في ركن الفناء من الخارج. أمسكت بين ركبتيها "الَأجَب" الملطخ ببقع داكنة تشكّلت من امتزاج السمن البلدي مع الغبار والطحين؛ قُفّة كبيرة محبوكة من سعف النخيل الجاف، مليئة بأصناف الحلوى. أدخلت مراراً يديها المخططتين بالتجاعيد والأوردة الزرقاء، وقذفت يدها المرتعشة المئات من قطع حلوى العطوي الملونة والمليم أبو عسل وبعض الشوكلاتة ذات الماركات الحديثة. ظلت ترميها على الأرض وتصرخ بالأحفاد المتحلّقين حول الثور لمشاهدة عملية ذبحه: "اهربوا من الدم، لا توسخوش بدلات العيد. ارجعوا ها واني فدا. الله يلعن اماتكم ارجعوا. شلّوا الشيكْليت ها، وا ملاعين الوالدين ارجعوا واني فدا". بين تلك اللعنات العيدية والحلوى، كان يطير حبها الذي ادخرته لأجل هذه الأسراب الحاشدة. أحياناً كانت تنفش الحلوى مع بعض الأهازيج التي يبدو أنها تحاول ارتجالها في تلك اللحظة؛ أهازيج مرتجلة عن الحب والكراهية والضغائن، وعن الحياة والزمن الذي يمضي بلا عودة. قبل أن تزحف الشمس على طرف حصيرتها المحاذية لجدار الفناء، أخذت تحصي أحفادها من جديد وتنفش المزيد من الحلوى. ثم نادت أشرف؛ أمسك بيدها ورفعها حتى وقفت. تمايلت قليلاً فأسندها الحفيد البار حتى استعادت توازنها، وقبل أن تغار المكان، ألقت نظرة على قُفّة الحلوى الكبيرة وأمرته بتوزيع ما تبقى على الأطفال وإعادة القفة إلى مكانها في مخزن المؤونة. مشت بظهر متقوس، وبمجرد أن اجتازت باب الفناء، بدأت لعلعة المفرقعات والألعاب النارية حتى شارفت الشمس على الغروب.

  في المساء، كان الدار خاوياً إلا من أشرف وإخوته، والأحفاد اليتامى الثلاثة عشر. بقية الأحفاد عادوا مع آبائهم وأمهاتهم إلى بيوتهم المجاورة، وانطفأت الأضواء الخافتة لمصابيح الطاقة الشمسية باكراً. في الساعات القليلة الأولى من ذلك المساء الكئيب، لمع ضوء القمر على زجاج النوافذ الغربية للبيوت، ثم انسكب الظلام على كل شيء عدا النجوم. إرهاق طقوس العيد قاد الكبار والصغار إلى الفراش باكراً، لكن رقية عادت من بيتها بعد أن نام زوجها، من أجل العناية بما تبقّى من لحم الثور. أمامها الكثير من اللحم المعلق على الحبال الرفيعة وعليها أن تتفقد كل القطع وتذرّ فوقها المزيد من الملح كي لا تتعفن. كانت على وشك الصعود إلى أولادها في الطابق الثالث عندما انطلقت صرخة بدور. بعد صرختين اختلطت صرخات بدور بصراخ الأحفاد وامتلأ الليل المظلم بالعويل. لقد ماتت الجدة، وبدأت القرية بالاحتشاد؛ النساء في الداخل والرجال في الخارج، عدا ثلاثة من أولادها. اجتازوا النساء اللواتي وصلن أولاً، وصعدوا الدرج بدون أن ينتبهوا إلى أن رقية مغمى عليها وسط تلك المجموعة من النساء. حاولت زوجة الابن الأكبر أن تلفت انتباه زوجها لكنه لم يلتفت. كان عويل الطابق الثاني يتداخل بعويل الطابق الأرضي وهكذا التبس الأمر. الكثير من النساء لم يتجرأن على الصعود قبل وصول الرجال الثلاثة، خوفاً من عفاريت بدور.

  عندما دخل أبو أشرف من باب الدار، كانت معظم النساء قد صعدن إلى الطابق الثاني. رأى زوجته مستلقية في حضن زوجة أخيه الأكبر وحولهما ثلاث نساء فقط؛ لم تفق بعد، لكنها تئنّ وتهذي بعفاريت بدور. شدّ أبو أشرف طرفي مئزره الملفوف حول خصره بلا حزام، ولم يتبيّن من هي المرأة التي أمسك بمعصمها ليثنيها عن سكب المزيد من الماء على وجه زوجته. انحنى بجذعه العاري وحملها بين ذراعيه وصعد الدرج، مهمهماً في أذنها بطمأنات غير مفهومة، لكنها جعلت ذراعيها يلتفان حول رقبته بإحكام. تبعته النساء الأربع بنشيج مكتوم لأن أولاد الجدة الذين صعدوا أولاً قمعوا العويل في الأعلى فتحول إلى نشيج وأنات مكتومة. عند الدرجة الأخيرة، بالقرب من باب غرفة الجدة، شاهدن أبو أشرف ينزل رقية من بين ذراعيه بينما تحاول الوقوف مستندة إليه. كانت مصعوقة وغير قادرة على استيعاب ما يحدث حولها. سألت عن سبب تواجد ذلك الحشد من النساء والأطفال، فتصاعد نشيج النساء الأربع إلى عويل ما لبث أن امتد تأثيره إلى داخل الغرفة الكبيرة. في تلك اللحظة، خرج أصغر الأخوة من الغرفة بعد أن عجز عن قمع المناحة المتصاعدة. هو الآخر يشدّ مئزره بين لحظة وأخرى لأنه خرج من بيته بلا حزام، لكنه يرتدي "تي شيرت". نظر نحو أخيه وقال: "الله يرحمها". لم يستطع التحكم بارتعاش شفتيه وأنفاسه التي يسحبها بتسارع عبر أنفه، فهرع نحو الغرفة المقابلة وأسند جبهته للجدار، وبكى في العتمة. على مقربة منه كانت بدور تنتحب وتشتم بعض النساء الفضوليات بينما يسألنها عن اللحظات الأخيرة لـ"الحجة". جميعهن من اللواتي كنّ ينعتنها بالسجّاجة ويحذّرن بناتهن من الإصغاء لحكاياتها. ولكي تبعدهن، هددت بإطلاق عفاريتها عليهن إذا بقين في الدار، وكان ذلك كافياً ليسرعن نحو الدرج والعودة إلى بيوتهن. بعد انفضاضهن عنها، رأت رقية تدخل الغرفة الكبيرة ممسكة بكتف زوجها، فلحقت بهما.  كانت الغرفة مكتظة بالنساء والأطفال، الذين أمرهم أبو أشرف بالخروج وطلب من النساء إفساح طريق ليصل إلى سرير الأم الرؤوم. كانت مسجّاة على سريرها الحديدي ومغطاة بلحاف هندي سميك، بينما أشرف ينتحب عند رأسها. بعض النساء قطعن نشيجهن ليسألن بدور كيف ماتت الجدّة وماذا حدث لها، لكنها هزّت رأسها يميناً وشمالاً ودخلت في نوبة نحيب مريرة. هذه أول حكاية لا تستطيع تحريك لسانها لروايتها، خاصة أن أسئلة الحشد المصدوم لا تخلو من الارتياب. لم يكترث أحد لحزنها على الإنسانة الوحيدة التي عاملتها بما تستحق فعلاً، بل يتساءلون عمّا حدث للجدة بارتياب يحمل اتهاماً غير معلن: هل قتلتها عفاريتك؟ حاولت رقية إنقاذها من الأسئلة المرتابة: "عمتي كانت مريضة بس ما ترضيش تبيّن مرضها." قالت ذلك ونكست رأسها، تاركةً صوتها الرقيق يجأر بخشونة فوق صدر العمّة الذي لا يزال دافئاً. ولأنها كانت مقربة منها، ألجمت أفواه الحشد، وهيّجت النحيب من جديد. عندما رفعت رأسها، سحب أشرف الغطاء الهندي من فوق وجه الجدة؛ كان على وجهها ابتسامة خفيفة وتلاشت منه بعض التجاعيد. كانت قد استفرغت قلبها تماماً من السخط والحزن، وطفا الحب على وجهها دفعة واحدة؛ رسم عليه ابتسامة مضيئة وخلّصه من أنكاد خمس وثمانين سنة.

* اللوحة للفنان ريان الشيباني