الأربعاء، 1 ديسمبر 2010

الرجل الأنيق


لطف الصراري    
يقف الرجل الأنيق أمام باب الشقة التي لا تحمل رقما لكن تحتمل أن يدون عليها الرقم (2) حسب الترتيب العددي للشقق من أسفل إلى أعلى العمارة، يتأمل قصاصة ورق وردية ألصقها لتوه على الباب، وقبل 10ثواني على انفتاح الباب المجاور الذي ضغطه بنقرة واحدة فقط فور انتهائه من صعود آخر درجة في السلم، يجد الوقت ليسحب رجليه خطوتين إلى الخلف باستدارة منفعلة ورشيقة تساعده، بشكل واضح، على التخلص من انقباض عضلات وجهه القريبة من فمه. ومن زاوية جانبية تتيح رؤيته وهو يمرّن هذه العضلات بالتزامن مع تمرين عضلات ساعديه وصدره؛ إلى الخلف وإلى الأمام ثم يثني عضلات وجهه فقط إلى الخلف بما يفيد ملمح ابتسامة، ويتلاشى من المكان باصطفاق طفيف للباب المنفتح الذي صار قابلا لأن يحمل، إلى جانب الواحد، أي رقم آخر.

        في مثل هذا الوقت من بعد الظهر، تندر حركة سكان العمارة والزائرين على السلم إلى درجة يمكن القول أنها تتوقف تماماً لساعتين متتاليتين. لكن من لحظة لأخرى، يطل شاب أعزب بوجهه من أمام باب سقف العمارة ليمارس هواية سبق أن وصفها الصحفي في الطابق الثاني بـ"الدنيئة" حين أجمع غالبية السكان على إعطاء الشاب آخر فرصة –قبل طرده من العمارة- كي يقلع عن التلصص تحديداً، على أم حمادة المولعة بكنس وتنظيف السلم أربع مرات يومياً، أو حسب شكها بوقع الأقدام عليه وحركة أبواب الشقق.
عندما تمسك أم حمادة مكنسة السعف وتبدأ بالكنس من أمام شقتها، لا تتوقف إلا عند باب العمارة، وأثناء ذلك، تتكئ لحوالي ربع دقيقة كل دقيقتين على الدرابزين لإلقاء نظرة فاحصة من الفجوة التي تعتقد أنها تستخدم عادة، لتركيب المصعد. لكن هذا الاستخدام لا تعرفه أم حمادة رغم أنها تحلم بذلك كثيراً وتحاول دون جدوى إتقان التسمية المصرية للمصعد؛ لم تفلح في نطقها إلا مرات قليلة عندما تكون مع شخص يجيد نطقها وبعد تمرينات طويلة أو أثناء مشاهدتها مسلسلاً مصرياً في التلفزيون، ثم تنسى بعد ذلك كيف أتقنتها وتعود للفظها المتعثر بأكثر من طريقة، وإن كانت (صنصعصير) هي المحاولة الأكثر ثباتاً في لسانها.
أمّا أن الحركة تندر في مثل هذا الوقت على سلّم العمارة، فذلك ليس جديداً على أم حمادة، لذلك لا أحد يستغرب حين يصادفها بساقين مشمّرين إلى تحت الركبتين بأقل من سنتيمتر، وهي فرصة لا تتكرر إلاَ للشاب الأعزب الذي كلّفتْه، دون أن يعرف كافة المستأجرين، بحراسة السقف ورصد حركة المستأجرين الذين يستخدمونه كثيراً، وأعطته مفتاح غرفة تستخدمها لحفظ التوالف من القطع المستبدلة للشقق. تقول أنها تبقيه في تلك الغرفة لأن زوجها المغترب لا يستطيع التخلّي عنه مثلما لم يستطع أن يدخله للعمل في الإمارات بسبب عدم وثوقه بنباهة الشاب الـ"أهبل". وحقيقة الأمر، أن أمجد –اسم الشاب- يعاني من نمو عقلي متعثّر ولكن ليس إلى درجة البلَه، وقبل أن يصاب بهذا التعثُّر كان الأخ الوحيد لأمه قد طلبه منها ليربّيه عوضاً عن أولاد يعرفان، بالإضافة إلى زوجته، أنه لن ينجبهم.
كان نمو أمجد طبيعياً حتى سن الثانية عشرة، وكان الأنيس الوحيد لأم حمادة والمستخدَم الوحيد أيضاً، ومنذ أن صرخت ذات مساء طالبةً المساعدة من المستأجرين، تعثر نمو أمجد. وما يعرفه جميع من علِم بالحادثة، هو أن الفتى خرج من الشقة قاصداً الدور الأول ليجلب لعبته (بلاي ستيشن يدوي) التي نساها في بيت صديقه سليم، فانزلق من على آخر درجات السلّم من الأعلى في الدور الثالث ليصطدم رأسه على الحائط الصغير الذي يتوسط عنده السلّم بين طابقين. أسعف إلى المستشفى فوراً وكان خاله يرسل الكثير من النقود لعلاجه على مدى 3 أشهر، ويتلقى بالمقابل طمأنات حاسمة من أم حمادة أن الفتى يتماثل للشفاء طالما هي تغدق على الممرضين والممرضات وحتى الأطباء كي يعتنوا به ويقرروا له روشتات الدواء ذي الماركات الأصلية باهضة الثمن.
تلك الليلة كان الرجل الأنيق في شقة أم حمادة، وهما الوحيدان من يعرفان، بالإضافة إلى أمجد وأنا، أن ماسورة مياه حديدية مقاس ربع إنش هوت على رأس الفتى بقوة خرافية مقارنة مع ساعدي أم حمادة، وبسرعة لم تمهل اكتمال إغماءة الفتى، دفعته من أمام باب الشقة المواجه للسلّم، فانطبقت الرواية التي اتفقت عليها مع الرجل الأنيق، بالإضافة إلى الرواية التي طالما بررت تواجده هناك في مثل ذلك الوقت أو حتى في وقت متأخر من الليل حين يخرج أو يدخل من باب العمارة.
***
الرجل الأنيق هو رب عملي وأنا سائقه الشخصي لمثل هذه المهمات تحديداً، وقد خفت عليه كثيراً تلك الليلة حين سمعت الأصوات ترتفع من داخل العمارة. ذخرت مسدسي وأخفيته تحت جاكيت الجلد الذي كان إلى ما قبل شهرين- حين أهداني إياه- يلبسه فوق قميص رمادي. كانت أم حمادة تلطم خديها والولد ملقى بين ذراعي الصحفي وسط الكثير من ضوضاء الاقتراحات بشأن المستشفى الذي ينبغي إسعافه إليه. وبسرعة ألهمتني إياها إشارة الرجل الأنيق، لكزت صديقنا الصحفي بالاتجاه نحو الأسفل، تاركين أم حمادة لعزاء الجيران وطمأنات الكلمات الأخيرة للصحفي وهو ينزل الدرج.
في الطريق إلى المستشفى ثم في الطريق إلى البيت، أخبرني الرجل الأنيق بكل تفاصيل الحادث: "هذي الحرمة مجنونة.. كانت بتودينا في ستين داهية". تقززت من كلامه بهذه الطريقة لأنه بدا كمن لا يهمه شيء سوى الستين الداهية التي كانت ستسحقه في حال لم يخرج صديقنا الصحفي سريعاً من شقته ليبرر تواجده، إذ طالما اعتمد عليه دون أن يشعره أن أم حمادة تعرف بتواطؤه في جلب رجلها الأنيق إليها في أي وقت. وبالطبع، لا أعتقد أنه يخفى على أحد لماذا يعمد للتعتيم على أم حمادة وعلى صديقنا الصحفي بشأن التواطؤ. كان تقززي واضحاً لدرجة أن لسانه تلعثم أكثر من مرة، وكان ذلك وقت ملائم لابتزازه كالعادة، لكن كلمة واحدة جعلتني أعدل هذه المرة عن الابتزاز؛ قال الرجل الأنيق وهو يفرك بقايا دم تخص أمجد بين أصابع يده: "مجرمة.. لا يمكن عاد أدخل بيتها".
إذا اعتقد أحد أن وصف أم حمادة بـ"المجرمة" هو ما جعلني أعدل عن فكرة ابتزاز رب عملي، فقد يكون مخطئاً إلى حدّ بعيد. لقد كان ينظر إلى الأمام حين قال "مجرمة"، وحين فرك بقايا الدم بين أصابعه نكّس رأسه في وضعية من يقاوم انهياراً. كان متأثراً بالفعل لأن الولد دفع ثمن استيقاظه وفكرة مشاهدة التلفاز بدلاً من العودة إلى النوم. ثم قال وهو يتحدث بطريقة من يتمنى عودة الزمن إلى الوراء: "لو كانت تركته قدّام التلفزيون ورفعت الصوت ماكانش اللي حصل حصل". لكن الفتى حين تجاهل أوامرها بالعودة إلى النوم، صفعته على وجهه، ولأنه أصدر صرخة ألم واحتجاج، كررت الصفعة على فمه. إلى هنا كان كل شيء يمكن معالجته دون احتياج الرجل الأنيق لتمني عودة الزمن للوراء، لكن الفتى حاول الخروج من الشقة ولم يتبقّ على منتصف الليل سوى ساعة واحدة، لذلك كان على ماسورة الحديد أن تطاوع عنف الرغبة غير المكتملة لأم حمادة وإن على حساب إعاقة الفتى لبقية عمره.
في الغالب، أثناء عودتنا من عمارة أم حمادة أو غيرها، يرغب الرجل الأنيق بسماع أغنية لأم كلثوم، خاصة ذلك المقطع الذي تردد فيه: "واسقيني واملا واسقيني تاني.. منّك من نور زماني"، ويطلب مني أن أخرج قارورة الفودكا الروسية التي يفضلها على أنواع الشراب الأخرى، من تحت مقعد السائق وتعديل تركيز الفودكا في الكأس البلاستيكي بضعفي كميتها من الماء البارد. يدلق الكأس دفعة واحدة كما يفعل الندماء حين يشربون الأنخاب، ثم يضيف بعدها كمية ماء مباشرة من فم القارورة معتدلة البرودة وهو يتحاشى النظر إليّ مثل أولئك المتذمرين من رداءة الخدمة التي يقوم بها جرسون في مطعم سياحي.
هذا ما اعتدته خلال مرافقتي للرجل الأنيق الذي أحرص على أن تعلق هذه التسمية بلساني لإدراكي كم يحب وصفه بالأنيق، لكن طقس العودة هذا اختلف لدى عودتنا من المستشفى. بدل الكأس البلاستيكي، طلب مني صب نصف قارورة الفودكا إلى قارورة مياه فارغة دون إضافة ماء بارد، وظل يجرعها من فم القارورة بالتناوب مع كمية ماء قليلة من فم القارورة الأخرى ذات البرودة الخفيفة، وحين وجّهني بإطفاء أغنية أم كلثوم، خمنت أنه يفكر بشيء ما جاد على غير عادته.
منذ تلك الليلة استغرق قطع علاقة العاشقَين سنة كاملة، رغم أننا زرنا صديقنا الصحفي أكثر من مرة، وكان رئيسي يسمح لي في كل هذه المرات أن أصعد معه بقليل من التحفظ وبلا توجيهات تتعلق باحتياطات السلامة، بل إنه ذات مرة، ونحن أمام شقة صديقنا، أومأ برأسه إلى الأعلى وقال لي بالنص: "تشتي تطلع عند صاحبتك"؟ يقصد أم حمادة التي كانت عشيقته الأثيرة. لم أتفاجأ حينها لأني كنت أعرف أنه يريد التخلّص منها بأية وسيلة لكثرة ما ضغطت عليه بالاتصالات.
***
سافر الرجل الأنيق إلى مصر لمرافقة والده خلال فترة علاجه التي امتدت ستة أشهر، وحتى ذلك الوقت لم يكن يعرف عن علاقتي بالشابة الأثيوبية التي تسكن في الشقة رقم (2)، وطيلة هذه الفترة لم يكن يلزمني سوى الصعود إلى الدور الثاني والجلوس مع صديقي الصحفي قليلاً، ثم أنزل بقدمين حافيتين، معتقداً أن مثل هذا التكتيك هو أحد أسرار نجاح الرجل الأنيق في مغامراته، وقد كان تكتيكاً ناجحاً بالفعل، لأني عندما كنت ذات ليلة على وشك الوصول إلى مقبض باب الإثيوبية انفتح باب الشقة رقم (1): امرأة بشعر لا تحتاج للمسه كي تصف ملمسه بالحرير، وقرطين ملتصقين بأرنبة أذنيها ويلمعان بتأثير إضاءة خلفية باهتة. فتحت الباب كما يفعل متسلل كي تفوّت على أي قادم فرصة ملاحظة خروجها السريع لوضع كيس القمامة بجانب الباب، لكنها رغم سرعتها في وضع الكيس، مرّرتْ نظرها على قدمي العاريتين. ابتسمتْ بهدوء شديد تناسَب مع إغلاق الباب الذي توقعت على الأقل، أن يصر مقبضه دون فائدة.
كان عليَّ حينها، كي أهمز مقبض باب الإثيوبية، أن أتخلص من هاجس أن امرأة الشقة رقم (1) تلتصق ببابها من الداخل لتسترق وقع خطواتي وتخمن اتجاهها، كما أني لست متأكداً من أن جميع مقابض الأبواب لا تصدر صريراً. على أية حال، خرجتُ من باب العمارة، ووقفت أمام أحد المحلات المغلقة في الطابق الأرضي، ثم عدت بعد ذلك بحماسة أكثر لفتح باب صديقتي.
هل قلت صديقتي؟ لأن ذلك سيترتب عليه منذ الآن تحديد أية صديقة، وكشف أمر العلاقة التي نشأت بيني وبين المرأة الثلاثينية ذات المهارة الحركية العالية في فتح الباب، منذ الليلة التالية. وسأكشف أمراً آخر، بالمرة، عن الطباع الهادئة لهذه المرأة لدرجة تجعل المرء يردد العبارة التالية كقول مأثور: "ما أصعب أن تفهم المرأة التي تبدو هادئة"، وشيء أخير سأكشفه على مضض، وهو أن الرجل الأنيق انقطع لسنوات عن مغامراته الغرامية بعد أن مات والده بسبب ما قيل حينها أنه أهمل رعايته أثناء فترة العلاج، لكن ما الفائدة من الحديث عن انقطاعه الطويل إذا كان سيعود مرة أخرى بشكل أكثر شراسة؛ هجر أم حمادة نهائياً مستغلاً سر إعاقة الشاب، استحوذ على صديقتي الهادئة مستعيناً بوصفي الدقيق  لها حين كنت أظن أنه لم يعد يهتم بالنساء، حتى صديقتي الإثيوبية لايزال يحاول إغواءها بإلصاق قصاصات وردية على بابها بتوقيع مجهول وعبارات من قبيل: "أيتها السمراء التي تنخر عظامي".
كان يعوّل على أن تسألني الفتاة عن مصدر تلك القصاصات أو تخبرني بشأنها على الأقل، وقد بدوت، بما يكفي من المرّات، كاذباًَ أمامها حين كانت تخبرني بشأن القصاصات وما تسببه من إزعاج لها. نعم إزعاج، لأن أي مجهول في كل الأحوال مزعج، لكن الأمر لن يكون كذلك حين أخبرها أن الرجل الأنيق هو مصدر القصاصات كي أتحاشى نظراتها التي تتهمني بالكذب. لا تمرّ ثلاثة أيام حتى يقف الرجل الأنيق أمام باب الشقة رقم (2) وينقر زر جرس الباب بخفة مذهلة ويتوارى باصطفاق طفيف للباب لم أكن أحظى به.
لقد وصل سعار الرجل الأنيق إلى شقق أخرى رغم علم أم حمادة، وبتعاطف الشاب الأعزب الذي لم تعد هوايته دنيئة.