نزع الغطاء عن "القاعدة"

   إثر استهداف "القاعدة" للسفارة الأميركية بصنعاء في سبتمبر من العام 2008، انتقد المتخصص في الشئون العسكرية والأمنية في العراق وإيران وبلدان الخليج/ مايكل نايتس عدم تطوير الولايات المتحدة لنفوذها في اليمن "على النحو الصحيح"، وعلى ذلك، لم يستغرب "ألاّ تقدّم حكومة صالح تنازلات مؤلمة" فيما يتعلّق بحرب أميركا على تنظيم القاعدة. وحسب نايتس، فإن المساعدات الأميركية غير العسكرية لليمن كانت أقل بكثير من المساعدات غير المشروطة التي تعهّدت بتقديمها آنذاك الصين ودول الخليج. ذلك في رأيه أحد الأسباب الرئيسة لضآلة النفوذ الأميركي في اليمن.
بدلا من تقديم التنازلات المؤلمة خلال العامين الماضيين، تلقى اليمن ضربة أكثر من مؤلمة باختراق منظومته الأمنية التي يرتكز عليها لإثبات قدرته في محاربة "القاعدة" على أرضه، وبالتالي الحصول على ما يريده من الدعم والمساعدات الأميركية. ليس غريباً أن تأتي الضربة الأكثر من مؤلمة بمبادرة سعودية، إذ يبدو التعاون الاستخباراتي الذي قدّمته المملكة لأميركا بالكشف عن الطرود المفخخة في 29 أكتوبر الماضي، ضمن تكتيكات أخرى تعبّر بواسطتها الجارة عن استيائها من استمرار وضع اليمن المقلق لها على ما هو عليه، بل وآخذاً بالنمو. وإذا اعتمدنا هنا رؤية تحليلية قام بها الزميل الصحفي محمد عائش حول الآليات التي دأبت المملكة على اتباعها لاستباق المخاطر السياسية القادمة من اليمن (احتكار إدارة الملف اليمني بشخص الأمير سلطان بن عبدالعزيز، وضخ المال السياسي)، سيحمل هذا التعاون الاستخباراتي مؤشراً لتطوير طريقة التعاطي السعودي مع الشأن اليمني بتعديل الاحتكار الفردي وإخراج آلية جديدة إلى العلن: كسب ثقة الفاعلين الدوليين على حساب ضرب السمعة اليمنية دولياً، سيما إذا كانت المعلومة المستخدمة تتعلق بتنظيم القاعدة الذي لم تتخلص منه سمعة السعودية نهائياً بعد.
   وفي حين استخدمت السعودية كبار علماء الدين في ضرب القاعدة ايديولوجيا، يبدو حضور الجماعات السلفية المتزايد في اليمن قريب من توفير المساندة الأيديولوجية لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، خاصة مع ظهور تصنيف لدى محللين أميركيين لجماعات مشابهة للسلفيين بوصفها جماعات تعمل بإيعاز من تنظيم القاعدة. نقطة الضعف القاتلة لهذا التنظيم حسب التكتيك المجرب في السعودية ودول أخرى، تتمثل في تقليص شعبيته في الأوساط الدينية والقومية، لكن هل تدخل الجماعات السلفية في اليمن ضمن هذه الجماعات؟ التحالف غير الخفي الذي يعقده الرئيس صالح بين فترة وأخرى مع السلفيين والقبائل ذات الثقل، يظهر القيادة السياسية لليمن في صورة المغذي لتنظيم القاعدة في أراضيها، وإن كانت صورة مموهة بكثير من التكتيكات المعقدة.
  على صعيد آخر، تحظى بالرواج في الأوساط الشعبية العربية، وحتى لدى بعض الكتّاب، أفكار من قبيل أن "القاعدة" مجرد أداة تستخدمها أميركا لإحكام سيطرتها على دول الشرق الأوسط تمهيداً لتحويلها إلى مستعمرات، وعلى مستوى اليمن يُتهم الرئيس صالح باستخدام ذات الأداة ضد خصومه ومعارضيه لإبقاء نظامه في موقع الأصلح للحكم، بالنظر إلى تطور المخاطر العالمية.! إذا كانت أميركا تستخدم تنظيم القاعدة كأداة لهدف ما، فمن السذاجة الذهاب أبعد من كون "الإرهاب" يمثل الغطاء الأنسب لمحاربة الأيديولوجيا الدينية التي اصطحبها المسلمون المهاجرون إلى أميركا وأوروبا. إذ تعتقد أميركا تحديداً، أن تمسّك المسلمين المقيمين في ولاياتها بعقيدتهم الدينية رغم حصولهم على الجنسية الأميركية تهديداً للاستقرار الاجتماعي فيها، وتستدلّ بأنور العولقي ونضال حسن والصومالي عمر همام وآخرون من باكستان ودول شرق آسيا، كنماذج لتطرف إسلامي أفرزته غلبة العقيدة الدينية السابقة على الجنسية التي تفترض الولاء للبلد الذي منحها. هكذا، تبدو الأيديولوجيا الدينية لتنظيم القاعدة –المسلم-  لا تقل خطورة بالنسبة للولايات المتحدة، عن الأيديولوجيا الاشتراكية التي تغلغلت في المجتمع الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية، وخاضت ضدها حرباً باردة لأكثر من 40 سنة. ولذلك أخذ العمل على إضعاف التعاطف الإسلامي مع "القاعدة" عالمياً أولوية أميركية لضمان مصالحها القائمة على تلاشي الأيديولوجيات، وليست الحرب على الإرهاب سوى إحدى استراتيجيات حماية تلك المصالح.
    أما بالنسبة للاستخدام اليمني لـ"القاعدة"، فلا يبدو بعيداً عن الاتهام الرائج، مع إضافة احتمال استخدام آخر يمكن أن تشترك فيه كثير دول شرق أوسطية: الإبقاء على تنظيم القاعدة "كأداة للضعيف ضد القوي". لكن وضع اليمن الآن صار شديد الخطورة على مصالح أميركا بما يستدعي تكثيف تدخلها وإحكام سيطرتها أكثر من أي وقت مضى.
   ضمن استراتيجية الأمن القومي لعام 2010 التي سماها ماثيو ليفت/ مدير برنامج "ستاين" لمكافحة الإرهاب والاستخبارات، "استراتيجية أوباما للأمن القومي"، جرى دمج استخبارات الأمن القومي والأمن الداخلي بهدف تحسين التكامل بينهما، ونشأت عن ذلك الدمج شبكة عملاء محليين في كل الولايات الأميركية وفي 44 بلداً- حسب ما نقله ليفت عن مساعد وزير الأمن القومي/ تود روزنبلوم. لكن الانتقادات لا تزال تلاحق الرئيس الذي كان انتخابه لأسباب تتعلق بكونه المرشح الأنسب لترميم ما خلفته فجاجة إدارة بوش الإبن في أغلب الأحيان. أوباما الذي عرف منذ حملته الانتخابية ببراعته في دراسة كل خطوة يقدم عليها، لا يزال يواجه تركيزا عاليا من قبل المعنيين برسم السياسات الأميركية على طريقته الهادئة في إدارة البلاد، وبالأخص فيما يتعلّق بالشأنين الأمني والاقتصادي. وطوال سنتين حافظ على ذلك الهدوء غير المرغوب من جانب الجمهوريين، ليظهر عشية الـ30 من أكتوبر الماضي على غير طريقته الهادئة وهو يعلن أن الطرود المفخخة التي أرسلت من اليمن تشكّل "خطراً حقيقياً" على أمن أميركا.
    بدا في هذا الظهور المتزامن مع قرب إعلان نتائج انتخابات التجديد النصفية كما لو أنه أدرك تأثير اعتداله على شعبية حزبه الديمقراطي وتالياً شعبيته كرئيس يتطلّع للفوز بفترة ولاية ثانية، فعموم الناخبين لا يعرفون شيئاً عن إنجازاته الاستخباراتية.
   حين كان أوباما يقترب من رئاسة البلاد، كثّف الخبراء الأميركيين بشئون الشرق الأوسط من تحليلاتهم وتوقعاتهم المعززة بالقدر اللازم من المعلومات القابلة للكشف، كوصايا للرئيس القادم. من ذلك ما جاء في مناقشات المنتدى السياسي لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى في أكتوبر 2008، حيث وصف مايكل فيكرز في إحدى محاضراته للمنتدى الحرب على الإرهاب بـ"حرب استخبارات في المقام الأول". وأضاف فيكرز أن أميركا اعتمدت في حربها على الإرهاب، العمل على طريقتين: التدخل المباشر باستخدام القوة، أو "العمل من خلال آخرين" يتم تزويدهم "بالمشورة والتدريب وسبل التمكين"، في إشارة إلى الأنظمة السياسية التي يجري استقطابها كشركاء دوليين لتفكيك "شبكة الإرهاب"، ويلازم كلا الطريقتين "عنصراً سرياً" كضرورة حتمية. هذا يعني بالطبع عنصر الاستخبارات كخدمة وطنية تقدمها السي آي إيه عبر عملائها وشركائها في أنحاء العالم. ولتحقيق الأهداف الاستراتيجية للحرب على الإرهاب، تعتمد أميركا أيضاً على التأثير التراكمي لتكتيكات العمليات الاستخباراتية ومهمات القوات الخاصة، وهو ما يبدو أنها حققته كحصيلة مُرضية مرحلياً من سلسلة عملياتها المتآزرة في محاربة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، في حين شكّلت هذه الحصيلة موقفاً مربحاً بالنسبة للسعودية عندما بادرت في إثبات كونها أكثر الشركاء الدوليين إخلاصاً لأميركا في حربها على "الإرهاب"، خاصة مع بقاء التصنيف الأميركي لإيران إلى ما قبل شهر من الآن باعتبارها أبرز دولة راعية للإرهاب. وهو تصنيف يثير الاستغراب من الخلط الموجّه بين مصطلحي "الجماعات الإرهابية" و "الانتشار النووي" لدولة تطمح في توسيع قدراتها صناعياً وعسكرياً.
   الاختراق الاستخباراتي الذي حمل بصمة السعودية، سيتيح لأوباما  تعزيز النفوذ الأميركي في اليمن بإرسال خبراء أمنيين لضبط الأمن الجوي في المطارات بعد ان كان إرسالهم يقتصر على تدريب قوات مكافحة الإرهاب، وبدلاً من تحليق الطائرات خلسة في الجوّ لضرب مواقع "القاعدة" في الجنوب، صارت الحكومة اليمنية متخبطة بين تأكيد ونفي امتلاك اليمن طائرات أميركية بدون طيار لغرض استخدامها لقصف مواقع تنظيم القاعدة في المحافظات الجنوبية. وتحمل جولة الزيارات الأسيوية التي بدأها بالهند، أنه بصدد تأكيد "استراتيجية" الشركاء الدوليين لتخفيف عواقب الفاعلية الأميركية كقطب واحد، ومؤشر لاهتمامه بإشهار نجاح إدارته في التعاطي مع الشئون العالمية شخصياً.