مفتوحة على كل خيارات العولمة

لطف الصراري
قولوا إن هادي لا يفكر بأن أفضل طريقة لتنفيذ "الأقلمة"، هي تسليم المحافظات لجماعة الحوثي!
الجميع يتحدث عن أن الوضع مهيأ لانفصال الجنوب، ومواقع "جلال" تروج مقالاً للحزمي يتنبأ فيه بانقسام الشمال إلى دولتين بعد تأسيس ما سماه "جيش السنة"... هناك أيضاً من يوائم بين ما يحدث الآن، وبين نبوءة سابقة (إصلاحية طبعاً) بأن هادي يسعى لتسليم الشمال للحوثي، لكي ينتقل هو إلى الجنوب، ويعلن فك الارتباط... وهناك نبوءات ما زالت منشغلة بمخططات الرئيس السابق، وكيف أنه يسعى لتفكيك جغرافيا خاض من أجل وحدتها عدة حروب، وأقصى شركاءه فقط لأن لديهم تصوراً مختلفاً عن تصوره للوحدة. هذه فقرة طويلة بالنسبة لمقال قصير، لكنه سوق النبوءات.
نعم سوق النبوءات والاصطفاف السهل مع الغلبة، ومشكلة هذا السوق أن لدى مرتاديه عيني ضبع؛ ينظر فقط إلى الأمام، ولا يستطيع تحريك رقبته، وإذا أراد الالتفات للخلف أو لأحد جانبيه، فعليه أن يستدير بكامل جسمه، ولعلكم تعرفون كسل الضبع.
نحن نواجه أسوأ كلفة يمكن أن يدفعها شعب لتحديد مصيره، أسوأ قادة وسياسيين أنجبتهم البشرية، وأسوأ زمن غارت فيه المسؤولية الأخلاقية والقانونية والوطنية والدينية، في أقصى عمق للكوكب الذي نسكنه. لا دولة وطنية احتفظت بهيبتها، ولا مجتمع دولي قادر على كبح مخرجات سياسات العولمة، ولا المنظمة الأممية تمتلك تصوراً لإنقاذ العالم من التفكك.
لا تجتهدوا في التنبؤ كثيراً، اليمن ليست الدولة الوحيدة التي ليس لها رئيس، ولا جيش يحمي شعبها من التفكك والاقتتال. اليمنيون ليسوا الشعب الوحيد الذي يغمض عينيه كي لا يرى جسده يتحلل. لا تنظروا للصومال الآن، بل للعراق وسوريا وليبيا؛ ثم ألقوا نظرة أخيرة على وطنكم المسجّى.
اليمن لا تجري تهيئته لانفصال الجنوب، بل لحرب ليست هدفاً بحد ذاتها، أعتقد أن الأمر متداخل مع بحث القوى الكبرى في العالم عن مسرح صراع دولي جديد، وهذا ما تتم تهيئة اليمن له. إذا وجد عائق لعدم اشتعال كل شبر في الجغرافيا اليمنية، فسيكون موقعها المحصن بدول الخليج التي تدافع عن تماسكها بكل احتياطها النفطي والنقدي.
اليمن مسرح صراع دولي وشيك، وتدفق السلاح إلى المنطقة العربية سيقوم بتوفير العقيدة القتالية للأغبياء الذين يفرحون بلمعان الكلاشينكوف، ويبحثون عن سبب لإطلاق النار. هل هذه نبوءة؟ لتكن. سوق النبوءات ليس خطراً بقدر خطورة سوق السلاح الجديد والزبائن المهووسين بالاستهلاك السريع.
تحارب هيئات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، تجارة المخدرات، لكن لوبي الفساد فيها متواطئ مع تدفق السلاح إلى المنطقة العربية ومناطق النزاع في كل بلدان العالم الثالث. هم يبحثون عن أسواق جديدة للسلاح، مستفيدين من عولمة الأسواق وحوكمة الأنظمة السياسية. حتى المخدرات صارت عملة عالمية لشراء السلاح، وهي بالمناسبة أعلى قيمة من اليورو والدولار.
كنا نحلم بـ"اليمن الجديد" بعد ثورة فبراير 2011، وتحدثنا عنه كملاذ لشعب ظل منسياً في أدنى الكرة الأرضية، وكنا نظن أن مخزوننا الاستراتيجي للتباهي أمام العالم، يتمثل في "الحكمة اليمانية". كنا مطمئنين لكون الحكمة لا تثير طمع أمريكا ولا أوروبا ولا إيران، ولا حتى الصين.
كنا فقراء، وصرنا فقراء وخائفين، وبلا حكمة. وهذا المجتمع الدولي لا يتورع عن تعييرنا بالفقر واللامسؤولية الوطنية.
ذات مرة، نشرنا في "الأولى" تقريراً مترجماً عن "نيويورك تايمز"، يفيد بأن شركة "هواوي" الصينية مخترقة من قبل الاستخبارات الأمريكية، وهي الشركة التي اختارتها "حكومة الوفاق" لتنفيذ مشاريع تحديث قطاع الاتصالات والسجل المدني للمواطنين اليمنيين.
أثار التقرير حفيظة السفارة الصينية بصنعاء، والتقيت بالملحق الإعلامي والثقافي فيها، وأخبرته بأن ترجمتنا ونشرنا للتقرير لا يستهدف الشركة الصينية، بل هو جزء من مسؤوليتنا الوطنية لنقد أداء حكومتنا. لم يقتنع بذلك، واستمر الحوار عن علاقة الصين باليمن، الضاربة في القدم، ومساعدات بكين التي وصلت إلى كل مناطقنا. أخبرته أن اليمنيين الآن يتطلعون لحل مشاكلهم، بما فيها الفساد، أياً كان مصدره أو ارتباطاته. لا أعرف ما الذي أثار استياءه؛ نبرة صوتي، أم الفكرة في ما قلته! قال متخلياً عن حصافة الدبلوماسي: أتعرف؟ الفقر هو أكبر مشاكل اليمن.
قبل ذلك، كان للسفير الإيراني تصريحات ردّ فيها على اتهام بلاده بالتجسس على اليمن. قال السفير إن اليمن ليس لديها اقتصاد أو ترسانة عسكرية ضخمة لتتجسس عليها إيران. أرجعت السفارة الأمر لخطأ في ترجمة التصريح.
في تلك الأثناء، كان جيرالد فايرستاين، السفير الأمريكي السابق بصنعاء، يتحدث عن الأوضاع في اليمن، بضمير المتكلم "نحن"، وجاء خلفه بلهجة أخف، لكنه قال في أول مؤتمر صحفي له عقب تعيينه، إن الولايات المتحدة ليس لديها حل سحري لمشاكل اليمن، وإن اليمنيين إذا تخلوا عن الحوار، فليس أمامهم بديل سوى ما يرونه في ليبيا وسوريا. معه حق في ما يتعلق بالحل السحري، لكن التلويح بمصير ليبيا وسوريا غير مطمئن.
مع كل ذلك، وما تواجهه اليمن من مخاطر محدقة بحاضرها ومستقبل أجيالها، يرتكن هادي في مصير البلاد للمجتمع الدولي، ولمجلس الأمن، الذي ينطلق في قراراته من قوانين ولوائح عاجزة عن مواكبة المتغيرات الدولية، منذ بداية الألفية الثالثة على الأقل.
والوضع هكذا، بإمكان المجتمع الدولي أن يدفع قرار الأمم المتحدة باتجاه منح الجنوب حق تقرير المصير، لكن أي مصير سيتم تقريره الآن، سواء للجنوب أو للشمال! بإمكانه دعم نقل العاصمة إلى عدن، بإمكانه دعم تسليم قيادة الدفّة لجماعة الحوثي. اليمن مفتوحة على كل الخيارات المأساوية، و"سيد الحرب" فخور بمتانة بضاعته.

(صحيفة الأولى- 15 أكتوبر 2014)