خيارات الرئيس المدني مستبعدة في اليمن


* 17 يوليو.. الكرسي الثابت في مكانه

لا تكف استطلاعات الرأي عن النشاط في ذكرى 17 يوليو من كل عام لكيل المديح لفترة حكم الرئيس علي عبدالله صالح. منذ العام 1978 – 2010 مضى ما يقارب نصف عمره وهو في سدة الحكم. حين قدِم إلى مجلس الشورى كان لا يملك شيئاً من مقومات رئاسة اليمن التي تتطلب نفوذاً قبلياً واسعاً، لكنه كان يملك فقط الجرأة في اتخاذ القرار في أوقات كان يتضح لاحقاً كم أنها مناسبة، وغير المناسب منها، درّب نفسه على معالجته من حيث المفصل أو "منتصف العصا". اعتمد على اتخاذ القرارات بكثافة ولا بأس في التراجع عن بعضها ومعالجة البعض الآخر بطريقة أثارت الجدل حول الأهداف المضمرة وراء كل قرار حتى إذا لم يكن وراءه شيء. هكذا نسجت التحليلات أسطورة حول طريقته في الحكم، ما عزّز لديه الثقة في تلاشي الأنداد، وساعده في استباق خصومه بخطوات أو خطوة على الأقل.
   الرئيس الذي لم يتأفف من الإرث المعقد لحالة البلاد، لديه الآن منافسون وطامحون في الحلول مكانه، والفارق أنهم خائفون ومتأففون من إرث قراراته التي صارت تربط المعطيات بالنتائج وفق منطق الاحتمالات المفتوحة على أزمات متلاحقة تشكّل في مجموعها حالة شبيهة، ربما، بتلك التي كانت حين توليه الحكم.



* 36 سنة من تصدير المؤسسة العسكرية للرؤساء وتزايد طوابير الجنرالات والمشائخ الجدد


32 سنة تقارب عمر الرئيس علي عبدالله صالح حين تولى رئاسة الجمهورية العربية اليمنية في 17 يوليو 1978. هذه الفترة المترامية الأطراف والأحداث جديرة بالقراءة بما هي عمر جيل تشكّل وعيه على الحياة السياسية والحياة العامة، جيل ثلاثيني لا بد أن فيه الكثيرون ممن يطمحون لرئاسة اليمن في ذات عُمر الرئيس حينها، وفيه الكثير من المحبطون والغاضبون والخائبون. جيل سيعكس وعيه ومفاهيمه، التي اكتسبها في بيئة سياسية واجتماعية اتسمت بعدم الاستقرار، على كل مظاهر الحياة القادمة لأربعين سنة على الأقل. هل نحن راضون عن مفهومنا للحياة (قبائل، عسكر ومدنيين) وهل يعتقد الرئيس نفسُه أن اليمن سيكون بخير على يد هذا الجيل؟

   في خطابه الأول، كان أول عهد قطعه الرئيس بعد اليمين الدستورية، هو الحفاظ على "مبادئ ثورة سبتمبر وتطلعات حركة 13 يونيو"، وتعهد أن يولي رعايته "لعملية التصحيح وصولا إلى بناء الدولة المركزية"، فيما حدّد عهده في المضي على نهج الرئيس أحمد الغشمي فيما يتعلّق بالسياسة الخارجية. ذلك يعني المضي على نهج رئيسين: الحمدي والغشمي، لكن ورود اسم "الرئيس الراحل الشهيد المقدم أحمد حسين الغشمي"  (3) مرات في أول خطاب رئاسي لصالح، يعكس فداحة شعوره بالخسارة، مثلما كان شعور القوى التقليدية التي أجمعت على إسناد مهام رئاسة الجمهورية لهما. ظل اسم الغشمي يتردد في الخطابات الوطنية اللاحقة، كما في المقابلات والمؤتمرات الصحفية للرئيس، كلما تأزمت العلاقة مع نظام الحكم في عدن، وظلت حركة 13 يونيو التصحيحية تتكرر أيضاً في الخطابات الوطنية كلما أتى السياق على ذكر التنمية ومشاريع التطوير.
   في خطاب 17 يوليو 78 المقتضب كان الرئيس هادئاً ولم يتحدّث كثيرا عن القوات المسلحة والأمن، لكنه بعد عام واحد أعلن عزمه تفعيل الهدف الثاني لثورة سبتمبر: "بناء جيش وطني قوي"، و "تطوير القوات المسلحة بالجديد من الأسلحة والتدريب المعاصر". وببقاء (الخطر الجنوبي) على دار الرئاسة  وعلى سيطرة الدولة في الشمال على مناطقها الوسطى وحدودها الجنوبية، كان تطوير المؤسسة العسكرية مسألة بقاء. من الطبيعي أن يستمر هذا التطوير إلى فترة ما بعد الوحدة أو حتى إلى الآن بفعل بقاء الخصومات السياسية موضع حسم عسكري، كما من الطبيعي أن يولد الجنرالات كل يوم من رحم هذه المؤسسة التي لم يصعد رئيس لليمن من خارجها إذا ما استثنينا القاضي الإرياني.
      ربما لا يكفي العرض المقتضب للسنوات الأولى من حكم الرئيس علي عبدالله صالح، لكن العناية المسلّحة التي ظلّت تكتنف دار الرئاسة تختصر العرض والتحليل، سنة بعد أخرى سيكبر جيل الثورة بقناعات راسخة أن الطريق الأنسب لأي طموح رئاسي هو عبر المؤسسة العسكرية، مهما بلغت درجة خطورته.
   ظلّ انتخاب رئيس الجمهورية حصرياً على مجلس الشورى ومجلس الشعب في شطري اليمن قبل الوحدة، ومطلع العام 1993 كان الناس يرددون في شوارع العاصمة صنعاء: "الرئيس هو الرئيس والنائب هو النائب والاّ عا تقرح". كان ذلك يوم انتخاب علي عبدالله صالح رئيساً للجمهورية وعلي سالم البيض نائباً له في أول مجلس نوّاب منتخب من الشعب بعد الوحدة. وفي مجلس النواب، أعيد انتخاب علي عبدالله صالح رئيساً للجمهورية عقب حرب صيف 94 وعقب انتخابات 1997 التي قاطعها شريك الوحدة؛ الحزب الاشتراكي.
   في العام 1999، كان الشعب اليمني بأكمله يخوض انتخابات رئاسية مباشرة. كان الرئيس علي عبدالله صالح قد قرر نقل صلاحية انتخابه من مجلس النوّاب إلى الشعب مباشرة. فاز بها بنسبة 96% على منافسه غير العسكري نجيب قحطان الشعبي. كانت الساحة الانتخابية خالية من منافس حقيقي، وحين جاءت انتخابات 2006، كان المرحوم فيصل بن شملان منافساً مدنياً ذو شعبية شخصية ساندتها شعبية أحزاب اللقاء المشترك المعارض. كان اختبار أعصاب على ما يبدو بالنسبة لحزب المؤتمر الشعبي وبدرجة أكبر، بالنسبة لمرشحه علي عبدالله صالح شخصياً. فاز صالح بنسبة 77%، وهي نسبة منخفضة مقارنة بما كان يريد، ورغم ذلك، شككت أحزاب المشترك حتى بهذه النسبة.
   حين لوّحت أحزاب المعارضة بإخراج منتسبيها الذين اقترعوا لصالح بن شملان، احجمت عن ذلك بسبب ما اعتبرته تلويحاً باستخدام القوة والعنف المسلّح من قبل الرئيس صالح، حين صرّح بأنه سيخرج لهم كافة الشعب بالمقابل. وهو ما اعتبرته تلويحاً بحرب أهلية.
   قبل انتخابات 2006 الرئاسية، أعلن الرئيس قراراً بعدم ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية، كان هذا الظرف خشبة مسرح مفتوح لاستعراض مهارات النفاق والاسكتشات الهزلية، سيما خلال أعمال المؤتمر الطارئ لأعضاء الأمانة العامة واللجنة الدائمة لحزب المؤتمر. لا بدّ أن الرئيس صالح نفسه قد شعر بالحرج من تلك التزلّفات، لكني لا أعرف إذا ما كان قد شعر بالأسى على خلوّ حزبه من صوت رصين وشجاع حتى على سبيل محاكاة شجاعته وجرأته حين أقدم على تولّي الرئاسة في ظروف محفوفة بالدماء.
   حالياً لا يدور الحديث عن أسماء جديدة مؤهلة لرئاسة البلاد عدا المخاوف من توريث كرسي الرئاسة لأحمد أو الاحتمالات بطموح حميد الأحمر لوراثة دور والده المرحوم في صناعة رؤساء اليمن إن لم يكن هو نفسه يطمح لذات الكرسي. وفي ظل الأزمات التي تعيشها البلاد، يبدو طموح الرئاسة صعب على الخائفين من "التركة الثقيلة للحروب" والأزمات. وكلما حلّت ذكرى 17 يوليو تعزّزت القناعة لدى غالبية الشعب بعدم أهلية أية شخصية أخرى غير الرئيس علي عبدالله صالح لإدارة البلاد، وبالمثل تتعزّز مخاوف المعارضة والسلطة معاً من تلميع أية شخصية كتمهيد لإعلانها مرشحاً للرئاسة. لا شك أنهم يعززون قناعة لدى الرئيس أيضاً، بعدم أحقية الطموحات الجبانة بكرسي الرئاسة.
   الآن، صارت خيارات الرئيس القادم لليمن محصورة بين عائلة الرئيس علي عبدالله صالح وكلهم عسكريون، أو المعارضة القبلية-بيت الأحمر. لا خيار مدني منظور على المدى القريب أو البعيد. الأمر الذي قسم القوى المدنية، على كثرتها وضآلة ثقلها السياسي، بين مؤيّد ضمنياً للتوريث ومتحمّس لرئيس جديد وإن كان شيخ قبيلة أو مطبوع بختمها. إنه وضع هزلي بالفعل ولا يُحسد اليمنيون عليه.