الجمعة، 3 ديسمبر 2010

قلبان أزرقان


لطف الصراري
  الغرفة ذات النافذة المطلة على نصف سطح عمارة (الشحطار) في شارع جمال، احتفظت على جدارها بقلبين صغيرين بحدود زرقاء باهتة وسهم اخترقهما من الأسفل للأعلى بوضعية انطلاق صاروخ. كان طلاء الجدران حديثاً بما يفيد التزام المستأجر السابق بتجديده في نهاية فترة انتفاعه بعقد الإيجار، لكن مساحة القلبين بقيت قريبا من الطرف العلوي للنافذة دون أن يعود بمقدورها أن تؤدي مهمة أخرى غير اللحظة التي رسم بداخلها القلبان والتي سيؤدي تصورها إلى تغيير طريقة تعامل طارق مع المؤجر ومن بعده أشخاص آخرين. لكن على الأرجح، ستضاف إلى مهمة تسهيل انجذاب عاشقين إلى منطقة أكثر عمقاً في العلاقة الحميمة مهمة أخرى للقلبين الأزرقين؛ مهمة ليس لها علاقة بالعشق بل بإرشاد حدس المؤجر إلى رداءة نوع الطلاء الذي استخدمه المستأجر السابق لإسقاط التزام ينصّ عليه عقد الإيجار ولا يتنازل عنه معظم أصحاب الحق.

   حاول المؤجر أن يزيل بظفر إبهامه ما تحت طبقة الطلاء "الرديء" وهو يلعن الغشاشين والذين لا يخافون من الله، وذلك ما أدركه طارق كرسالة يريد الرجل تمريرها إلينا كي لا نفكر بتكرار "الفعلة"، رغم أن الرسالة لم تكن كذلك وحسب، بل تمهيداً لشرط حازم لا يتضمنه العقد. لم تمض دقيقتان حتى قال المؤجر ومازال يفرك القلبين بظفره: "قبّح الله الصعاليك.. شوفوا ياعيالي هذا بيت محترم، لانتم حق معشقة اتمعشقوا لكم خارج. هانا ممنوع تدخل مرَه عندكم". لم يكن في وجه طارق إمكانية لظهور البقع الحمراء التي تشير إلى الخجل، لكن التغيّر الذي ظهر على ملامح الوجه الأسمر أعقبه رشح مبرّر بالاستياء أكثر من حرارة الجو. قال طارق وهو يزيل العرق من جبينه بحافة إبهامه وينزل بها على جانب من خده: "شوف يا حاج.. نحنا مش حق ذي الحاجات.. إنت المفروض تعرف الصعلوك من صورته"، وأضاف وهو يشير بسبابته إلى وجهه ووجهي: " بالله هذي صور صعاليك؟". "المهم يابني أنا نبّهتكم.. لأنه كان معانا مستأجر بالشقة اللي تحت وكان بالبداية يظهر محترم وبعدا ما درينا الا والحريم واحدة تطلع وواحدة تنزل، وهو يمكنّا هذي امي هذي خالتي هذي اختي.. لما طلّلعنا له واحد من حق البحث الجنائي ربط أبوه هو والقحبة ذي يقول انها أهيلته". "ياعم ما فيش داعي للكلام ذا.. نحنا نعرف الأصول". قال طارق بوجه توقف عن الرشح ولم يعد متوتراً. لم تفلح كلماته في إزالة ريبة المؤجر الذي صمم على الاستمرار في تحذيرنا من عواقب إدخال أية امرأة إلى الغرفة، وكان عليه أن يشير إلى اكتظاظ الشارع بالمخبرين من الأمن السياسي والمباحث الجنائية الذين يرصدون حركة "الطالع والنازل".
   حين سأل المؤجر عن المنطقة التي ننتمي إليها بالأصل- وهو سؤال شائع في عموم اليمن، كان قد أبعد يده التي جرب ثلاثاً من أصابعها لإزالة القلبين الأزرقين دون أن تتمكن أظافره الخشنة من اختراق الطبقة الزيتية للطلاء الرديء. أجبته بأننا من تعز، ولمزيد من الطمأنة، أخبرته استباقياً اننا نعمل في مصانع هائل سعيد. أضاف طارق حين نظر إليه المؤجر نظرة تفيد التشكيك في إجابتي كون لهجة طارق مختلفة: "أنا من هنا يا عم بس قد انتقل أبي زمان لعدن واتزوج من هناك". وعندما أدرك المؤجر أن السؤال والإجابات بدأت تأخذ منحى ذي حساسية مناطقية، ابتسم بدوره واستخدم عبارة التلطيف المتداولة: "كلنا يمن واحد". انصرفت بنظري واهتمامي لتفحّص مساحة الغرفة وجدرانها فيما استمر طارق والمؤجر بأسوأ نقاش سطحي يتورط فيه اثنان عن عدم وجود فوارق بسبب المناطق وعن فضيلة الوحدة بين الشمال والجنوب، ولم أعد أسمع سوى تكرار نداء طارق للرجل بـ"يا عم".
    كانت الغرفة خالية من أي أثاث كما هي العادة في تأجير أي عقار سكني أو تجاري، وما عدا  ثلاث شماعات جدارية ذوات رؤوس بلاستيكية حمراء أخذ الطلاء الخفيف لمعان معدنها وبعض لونها، كان علينا شراء كل ما نحتاجه من أثاث. أخرج المؤجر ورقة مطوية بشكل اسطواني من جيب سترته "الكوت" وفتحها؛ نسخة بتصوير متوسط الجودة عن وثيقة كتب أعلاها "عقد إيجار"، وقبل أن نلقي نظرة أولى على بنود العقد، طالبنا بالتوقيع مشددا على بندين: الأول عن ضرورة دفع إيجار شهرين أحدهما يبقى كضمان طيلة فترة الإيجار أو ما يسميه السماسرة "ديبازي"، أما البند الثاني فهو المتعلق بالطلاء وأية استحداثات أو أضرار تلحق بـ"العين المؤجرة".
   وقعت على العقد وأعطيت المؤجر نسخة من بطاقتي الشخصية وانتظرت توقيعه وكتابة مبلغ الإيجار في الحقل المخصص لذلك، وفي الأثناء كان طارق لا يزال يتحدث إلى العجوز عن أمور مختلفة جذرياً عما كانت قبل قليل؛ صار الآن يتملقه ويمتدح حرصه على أخلاقيات المستأجرين في عمارته. وعندما أخبرت المؤجر أننا سنذهب لإحضار أغراضنا وطلبت المفتاح، سلّمه لطارق ودعا له بالحفظ والسلامة بطريقة من يبارك استقامته. لم يدم اندهاشي بمعرفة أن المؤجر ليس مالك العمارة وإنما وكيلاً عنه، رغم أنه يسكن في شقتين ملتصقتين في الدور الرابع، بل كنت مستغرباً للتحول المفاجئ لتعامله مع طارق رغم انقباضه الواضح في البداية وريبته من لهجته العدنية، أما صاحبي فأعرف أنه سريع التحول من الغضب إلى الرضا سواء في تعامله معي أو مع أي شخص.
  أحضرنا ما لدينا من فرش أسفنجية وبطانيات ولم نستطع جلب (المشمع) للأرضية لأنه أولا لا يتناسب مع مساحة الغرفة  الجديدة وثانياً لأنه، بالإضافة إلى أشياء أخرى، يخص صلاح الذي لايزال يدفع إيجار الغرفة. أخذنا قياس مساحة غرفتنا واشترينا قطعة موكيت مستخدمة ولكن من النوع الفاخر. كانت فكرتي في أن نذهب لشراء موكيت مستخدم مرتكزة على إمكانية الحصول على قطعة مستخدمة ذات نوعية ممتازة بنفس السعر الذي تكلفه قطعة جديدة من النوع الرديء، لكن ذهابنا إلى حي زيد الموشكي، حيث تصطف الكثير من محلات بيع الأثاث المستخدم، أغرانا بأفكار أخرى؛ خزائن ملابس، تلفزيونات، أجهزة استقبال رقمية، غرف نوم... سيجد هنا من يريد تأثيث شقة صغيرة كل ما يحتاجه. الكثير من الأشياء تبدو جديدة، ومصدر غالبيتها من السعودية، حيث يستبدل الناس هناك أثاثهم وأجهزتهم المنزلية كلما ظهرت تصاميم جديدة حتى إذا لم يمر على التصاميم السابقة أكثر من شهر. بعض أصحاب المحلات هنا والذين يروّجون لجدّة الأثاث بهذه الفكرة غير الأكيدة، تنفلت في كلامهم لهجة سعودية ويرتدون الثوب الأبيض الطويل بلا جنبية، وهذا لا يحتاج لاستنتاج ذكي لنعرف أن هؤلاء مغتربون يخرجون إلى اليمن بين فترة وأخرى كلما توفروا على بضاعة من هذا النوع، ويكسبون منها أكثر من خمسة أضعاف سعر شرائها. في المحل الرابع في سوق الموشكي رأينا قطعة سجاد أحمر كثيفة الشعر صمم طارق على شرائها ووافقته رغم تفضيلي ذات اللون الأخضر، ثم اقترح أن نشتري تلفزيون وجهاز استقبال وسريرين. هذا ما يحدث حين يكون شريكك في السكن ذو تصور للحياة المنزلية أكثر كلفة من تصورك البسيط. لكن تكلفة ما اقترحه كانت متوفرة مع كلينا وكان السعر مغرياً بالمقارنة مع سعر الجديد؛ ربما هذا هو سرّ إغواء الأشياء المستعملة. كان مرتب كل منا ومكافأته الشهرية لا تزال في جيبه، وهي تفي بالغرض، لكننا لم نحسب المستلزمات الإضافية للسريرين وجهاز الاستقبال، مثلما نسينا من أين سنأكل ونشرب حتى نهاية الشهر القادم إذا أنفقنا كل ما لدينا على الأثاث. وقعنا تحت طائلة إغراء كوننا سنمضي الليلة الأولى في غرفتنا الخاصة فوق سريرين وأمام تلفزيون وخزانة ملابس كأننا نسكن غرفة في فندق محترم، خاصة مع الفخامة التي ستضيفها قطعة السجاد الأحمر. لقد بدت الغرفة كذلك بالفعل حين وزعنا الأثاث فيها، لولا أننا انكسرنا فيما يتعلق بالنقص الجوهري للطبق والرأس اللاقطين للقنوات الفضائية.
   بعد أن فرغ النجار الذي وفره المحل من تركيب السريرين والخزانة، استلقينا عليهما وكان صاحبي لا يكف عن دخول الحمام بين لحظة وأخرى. بدأ يسألني عما اذا كنت أتشارك معه شعور الارتياح لاستقلالنا في غرفة خاصة بنا بعيداً عن أخيه وأبي. أجبته بالإيجاب، وبنبرة مشمئزة من تكرار مديح الاستقلال بدل الاستمتاع به، أخبرته ان استحمامه المتكرر سيوقعنا في أزمة مياه لن نحتمل حينها توفير الماء من المسجد المجاور إلى الدور الرابع. أراد أن يدق باب المؤجر ليعطيه مبلغ الإيجار الضمان (الديبازي)، عرفت حينها أن طارق يشعر بانجذاب تجاه المؤجر لسبب يخفيه عني إلى الآن.  قلت له: "خلّي البيس نروح نشتري صحن وراس للدش.. والاسبوع الواجي ندبرها له." .. "إيش براسك يا حبّوب.. اشوفك كثّرت المشاعر على الحاج." أضفت بحسم. أقسم على أن الرجل يبدو طيباً وأنه فقط يتصرف على هذا النحو بدافع أن علينا أن نفهمه كي نستطيع التعامل معه، قال ذلك في حين كنت أقاطعه: "على غيري.. قل لي إيش براسك لأنك بكرة ما بتقدرش تخبي عليّ حاجة". أجاب: "بكرة من بكرة". طرق الباب طرقات خفيفة وسمعته يعرف عن نفسه بـ"المستأجر الجديد"، لكنه عاد لأن "الحاج" عادوه بالمسجد. بعد صلاة العشاء عاد مرة ثانية بطرقاته الخفيفة وتحدث مع المؤجر بصوت كان يعلو تدريجياً بالمديح لطيبته وهدوء عمارته ونظافتها، والرجل يردّ المديح عن طيب خاطر حتى صار صوتاهما على درجة من الاستفزاز. في نهاية حديثهما قال طارق ببجاحة أعرفها: "وشرفي يا حاج صالح حسينا من أول ما أجينا نستأجر الغرفة انه بيتك زي بيتنا بالضبط."، فيما ردّ الرجل بالشكر والتاكيد على أن البيت واحد والبلاد واحدة، وتمنى كل منهما للآخر ليلة سعيدة. كنت أتوقع أن يغير طارق رأيه حين عرض عليه المؤجر تأجيل المبلغ في حال كنا بحاجة إليه مادامت العلاقة بينهما مازالت في طور كسب الثقة، لكنه لم يفعل. لمته حين عاد إلى الغرفة، لكنه أقنعني بضرورة أن نفي معه من أول تعامل تحسباً لأي طارئ يضطرنا لتأجيل الإيجار مستقبلاً. بسبب الإنهاك من حمل وترتيب الأثاث كنا نتحدّ وكلانا مستلقٍ على سريره مع فترات صمت يبدو أني كنت أغفو خلالها، نظرت إلى ساعتي حين سمعته يفتح السقف ويغتسل لآخر مرة. كانت الساعة 12 منتصف الليل، وبهدوء من اغتسل خمس مرات استلقى طارق على سريره ولم يعد يتحدث. أشعر بدبق العرق وأستمر بفرك كتفي ورقبتي، شعرت بالإنهاك ونمت دون أن أغتسل.
   صباحاً، استيقظنا على أشعة الشمس التي لم نألف سقوطها علينا في الفراش. كان الشعاع نظيفاً كالهواء القادم من سطح العمارة المغطى بنفس نوع البلاط الذي يغطي أرضية الغرفة، اعتقدت أننا نسينا الباب المؤدي للسطح مفتوحاً منذ المساء، لكن طارق لم يكن في مكانه ولا في الحمام، الباب المفضي إلى السلّم أيضاً ليس مغلقاً بالمزلاج، فتحته وألقيت نظرة على حدسي؛ هذه ساعة مناسبة لمعرفة إذا ما كان هناك طلبة مدارس في بيت المؤجر، سخرت من نفسي حين اكتشفت حرصي على معرفة شيء سأعرفه اليوم أو غداً. لكني كنت مستغرباً لتحفظ صديقي معي منذ المساء حول أمر نعرف كلانا ضمناً أنه أمر ذو علاقة بالعشق والغرام. تركت الباب أكثر مواربة مما كان، وعبرت باب السطح حيث الحمام. وأنا أفتح الشاور المعلق على سقف خشبي قريبا من رأسي، كنت أشعر بالارتياح لكوني أستحم في ضوء الشمس وأتمتع باستقلال لم أحظ به قبل الآن لا في بيتنا ولا في غرفة صلاح. الآن عرفت لماذا استحمّ الملعون أربع مرات الليلة الماضية. ألقيت نظرة من النافذة على السطح المبلّط وجدار الحماية الصغير على حافته، الجدار الصغير ملتصق في أحد طرفيه بجدار العمارة المجاورة، أما في الطرف الآخر فملتصق بجدار يتبع هذه العمارة، ويحاذيه باب غير مغلق من جهة السطح لكنه مغلق بكل تأكيد من الجهة الأخرى، حيث تقع الشقتان الملتصقتان اللتين يسكنهما المؤجر. الآن فهمت كل ذلك الحرص على الأخلاق والتحذير من دخول امرأة غريبة؛ موقع هذه الغرفة أكثر حساسية من أي غرفة أو شقة أخرى في العمارة، إذ تعتبر في نطاق بيته. سيكون تصميم مواقعنا كالتالي: في آخر الدّرَج ثلاثة أبواب؛ اثنان منهما متجاوران ويفضيان إلى بيته والثالث على بعد ثلاث خطوات يساراً هو باب غرفتنا، ومنها إلى السطح باب حديدي بدرفة واحدة، وهذا الباب غير المغلق من جهتنا مخصص للاستخدام العائلي ثلاث مرات في الأسبوع. لم أر هذا التصميم من قبل لكني لم استغربه كون الكثيرين هنا يبنون العمارات بنفس طريقة التجزئة هذه لعدم مقدرتهم على تكليف مقاولين للبناء دفعة واحدة.
  الملعون- وهذه تسمية أطلقها على طارق حين ينفرد بشيء مميّز بدون علمي- يبدو أنه قد عاد إلى الغرفة وأنا مازلت في الحمّام أفكر بتصاميم البناء. لا يزال لدينا عدة ساعات حتى يحين وقت دوامنا في الوردية التي تبدأ بعد الظهر. كان قد أخرج من كيس الفطور جبنة، طحينية، رغيف الساخن وعلبة فول استخدمها للشاي. كان يبتسم وهو يخبرني أننا لن نضطر لطلب سلفة من المصنع لشراء الصحن والرأس اللاقطين وشراء فرشان جديدان يتناسبان مع السريرين. بهذه السرعة يتصرف طارق إزاء الكثير من الأمور، هناك دائماً من يقرضه المال وليس هناك أدنى شك في أنه يخفي عني مدخرات أو مصادر دخل خاصة به. لديه الكثير من الأصدقاء وهو يحسن التصرف بأية نقود في حوزته رغم ما يبدو عليه من تهوّر في الانفاق كما حدث أمس. كان طارق ينظر إلى القلبين الأرزقين عند حافة النافذة ولم يستطع أن يداري ابتسامة ماكرة أوحت لي بنيته إزاء الباب المجاور.