الأربعاء، 30 يناير 2013

في وداع غرفة دافئة


طالما نفرت من طقوس الوداع. ليس كرها بالمعنى المتعارف أخلاقيا، ولكنه نفور من شعور بالمغادرة، مع أني لم أسمع قبل الآن عن إمكانية ت
سمية شعور ما بـ"المغادرة".
لكني كنت مضطراً للجلوس في وداع غرفة ارتبطت بذاكرة مبهجة ومؤلمة، وكل ما يمكن أن يصاحب حياة شخص متقلب المزاج طوال 7 سنوات. كانت تنتصب أمامي شاشة الكمبيوتر التي صارت قاعدتها مهشمة بأيدي أطفال مفرطي الحركة، ولوحة مفاتيح سوداء ذات مميزات كثيرة للتحكم بالصوت والدخول إلى برامج متعددة بضغطة واحدة بدل النقر المزدوج بالماوس لعدة مرات.
طيلة السنوات السبع تعاقبت أمام هذه الشاشة 4 لوحات مفاتيح، لكن هذه اللوحة ماركة "Delux هي الأفضل، ليس لأنها ماركتها مشهورة، ولكن لأن مرونة المفاتيح وعدم استعصائها على تنفيذ أوامر الأصابع، تمنحها جاذبيية إضافية، ولهذه الميزة تحديداً، لم تلقَ مصير اللوحات التي سبقتها بالتهشيم على طرف الطاولة الخشبية الصغيرة التي تحمل الشاشة.
هناك الكثير من التفاصيل المميزة في هذه الغرفة، وفي لحظة "شعور بالمغادرة"، أقف أمامها جميعاً، ثم أجلس مثقلاً بالتفكير بأن عليّ الترتيب للنقل نهائياً، ليس من هذه الشقة فحسب، ولكن من المدينة كلها؛ عليّ أن أغادر إلى صنعاء، حيث العمل متوفر أكثر، والحظ والموت والحروب متوفرة أيضاً على أكثر من صعيد.
التفكير بالرحيل يأخذ عينيّ إلى الستائر الزرقاء، المساند والتكيات والسجاد ذات اللون نفسه، مع فوارق طفيفة في مستوى التدرج، والخزانة ذات الثلاثة أدراج، التي طالما احتفظت فيها بالكتب وقصاصات ورق مكتظة ببدايات جميلة لنصوص فاشلة. لا أدري لماذا أشعر بإلحاح لوصف هذه الغرفة تحديدا، من بقية غرف الشقة الثلاث، والممر الضيق بينها، الذي نسميه مجازاً: صالة. وفي الحقيقة، ليس ذلك احتياجاً للوصف، لكنه احتياج، كما يبدو، لاختبار القدرة على اتخاذ قرار بالرحيل.
أكتب هذه التفاصيل كما ترد في ذهني، لا تخطيط مسبق ولا تنقيح، عدا ما تقتضيه سلامة اللغة. هناك لوحتان معلقتان في جدارين شبه متقابلين للغرفة، وكلا اللوحتين لصديقي ريان الشيباني؛ ثلاث نساء يصرخن بدهشة واستكانة ولامبالاة، وجميعهن خرجن للتو من مزهرية لم تصنع مثلها أية ماركة عالمية. تبدو المزهرية متناسقة الألوان والخطوط، وبالنسبة لقراءة ضحلة للفن التشكيلي، سيرى مشاهد سيئ الفهم أن الخطوط الكثيرة في المزهرية هي تجسيد للأجزاء السفلية من النساء الثلاث، لكني، غير معني بأين ذهبت هذه الأجزاء، بقدر ما أستمع، كلما نظرت للوحة، لصرخاتهن متفاوتة الدافع، وأستمتع ببراعة توزيع اللون الأصفر المتشرب بالخضرة في أرضية اللوحة، ثم انسياب الأزرق، الأصفر، الأخضر والوردي، بتعرجات لا تتعمد أن تشبه الزخرفة على المزهرية.
المزهرية أيضاً، تحاول ألا تشبه أي تصميم سابق، فقط أخذت شكلها غير مكترثة بالإتقان الهندسي. وفوق رؤوس النساء فتح ريان نافذة خضراء لم تمتص صرخاتهن، ولن يعرف أحد خارج اللوحة ما هي الكارثة التي حلّت بهن، عدا أنهن متشابهات في أجزائهن السفلية، التي هي عبارة عن مزهرية جزؤها العلوي يشبه رسمة القلب في كتاب العلوم للصف السادس عام 1986.
هذه اللوحة أهداني إياها صديقي الفنان لأعلقها في مكتبي بجامعة تعز عندما كنت أشغل منصباً إدارياً يبدو جديراً بالاحترام وبتعليق لوحة، لكني آثرت تعليقها في جدار هذه الغرفة التي هي، بالنسبة لي، أكثر من مكتب وغرفة معيشة.
وعلى الجدار المجاور لجدار لوحة المزهرية، تتشبث أربع حواف خشبية مطرزة بمسامير صغيرة تحافظ على انشداد قماشة بيضاء، لم يتوقع صانعها أن لوحة بديعة سوف يرسمها صديقي الفنان عليها.
ما زالت آثار الملعقة التي أخذها ريان من مطعم عمه لغرض الرسم، ظاهرة في حركة اللون وعلى أصابع العجوز وكأس الشاي الأحمر التي يمسكها بنشوة الغروب. في الحقيقة، ربما كانت آثار الملعقة عالقة في ذاكرتي فقط، منذ رأيت اللوحة في مرسمه المتنقل. الأحمر والأصفر والأخضر في لوحة "العجوز والفنجان"، تتخذ مواضعها بتدرجات متفاوتة التركيز، ووجه طاعن في السن كان بعض الأصدقاء يتوقعون أن يشبه وجهي بعد 30 سنة على الأرجح. ترتعش يد العجوز وهو يمسك كأس الشاي بأربعة أصابع تنقصها السبابة التي رفعها بعيدا عن الكأس، كما لو أن ظفرها المبتور ما زال جريحا. (لاحقاً قال لي ريان إن ظفر السبابة مخفي بتأثير الضوء).
 طوال سنوات من النظر إلى "العجوز والفنجان"، تأكدت من خاصية مثيرة للاهتمام في هذه اللوحة؛ إذ تبدو ملامحها أكثر حدة ووضوحاً في الضوء الخافت الذي يسبق حلول المساء، أو على ضوء شمعة. وعندما سألت ريان ذات مرة عن ذلك، لم يظهر أي ادعاء بمعرفة السبب.
 (مايو 2011)
في الحقيقة، تحتوي الغرفة الجديرة بالوداع الدافئ، على أكثر من هذه التفاصيل. لكن حيزا كهذا في الصفحة الأخيرة لصحيفة سياسية، لا يتسع لها. وفي هذا السياق، سيسأل مدمنو السياسة عن ملاءمة نشر نص أدبي في صفحة غالباً ما احتفت بالسياسة. لكن هذا هو الحال؛ ليس أمامنا سوى إشهار هذه اللغة، ومثل هذه التفاصيل، بين الحين والآخر، في وجه التعسف السياسي لأدمغتنا وقلوبنا. وباختصار، لقد اتفقت مع صديقي الفنان أن نطالب بمساحة كهذه كمحاولة للتعايش مع أزمات السياسة وعنفوان الثورة والحروب.