الأحد، 21 أغسطس 2011

ما تشعر به في نهاية يوم حافل بسنوات متشابهة


يبدأ شعور بالتشابه المحبط بعد جلسة قات كانت حافلة بمناقشة العديد من القضايا المتشعبة، تفضي بطبيعة التناول الأكثر تشعبا إلى مناقشة ما يجب أن يكون على مستوى الوطن المتعثر بالفساد.
   بالنسبة لشخص غير موظف في مؤسسة حكومية، سيثرثر بإفراط حول هذا الـ"ما يجب ان يكون" خاصة إذا كان قد خاض تجربة العيش في بلد آخر يعتبره –أو أنه كذلك بالفعل- أفضل حالاً من "هذي البلاد". تثرثر بحماقة تستفز طرف/أطراف الحديث الذين ربما يكون بعضهم قد خاض تجربة الغربة أيضاً لكنه الآن يعمل في مؤسسة حكومية و"مصدوما بالواقع". الذين درسوا في الخارج ويعانون من وهم الاصطدام بالواقع بعد العودة بهدف "بناء الوطن"، هم أكثر الناس ميولا للحديث عن المثاليات وما يجب ان يكون. يأتي بعدهم المتسربين من الدراسة في مرحلة يتحدثون عنها بأنهم كانوا مجبرين على المفاضلة بين الاستمرار في الدراسة أو التضحية بمستقبل تعليمي لتفادي الوقوع تحت طائلة الحاجة للناس. تحضرك نماذج من هؤلاء الأشخاص لا يزال تأثير هاجس التعليم يسبب لهم إرباكا داخليا يظهر غالبا بصورة استعراض لما كان يمكن أن يكونه الشخص الذي يحدثك لو أنه واصل تعليمه إلى مرحلة الجامعة أو الثانوية على الأقل.

   تتنمل رجلاك وأنت تستمع إلى متحدث كهذا في مقيل مكتظ، خاصة إذا كنت تجلس قريبا منه وقد أفضى تشعب موضوع/مواضيع النقاش إلى تداخل الأصوات ومحاولات مستميتة لمحبي الاستحواذ على الحديث، في البحث عن مستمع جيد. بالإضافة إلى تنمل رجليك، تشعر بالحاجة للتبول بشكل متسارع بسبب لجوئك إلى قارورة الماء بمعدل خمس مرات في الدقيقة على الأقل، وهو معدل محاولاتك لمشاركة الحديث معه، وتصير مراعاتك للياقة في عدم المقاطعة أكثر المحرضات على إدرار البول. يمر وقت يعتمد في طوله أو قصره على الحالة الصحية للمسالك البولية خاصتك، قبل أن يتولد لديك دافع في مقاطعة فجة، كردة فعل غير مدانة من حيث اللياقة، على وقاحة محدثك الذي لم يكترث لإشاراتك المهذبة عن قرفك من ثرثرته الممزوجة بانتشاء مصدره نوعية قات باهض الثمن يمضغه مع "ما يجب ان يكون" وما ينبغي عمله لإحداث نقلة نوعية في خطط التنمية الشاملة وآليات تنفيذها على مستوى المرافق الحكومية والقطاع الخاص، وقد يتشعب إلى سرد قصص مفككة وهو يحدثك عن التفكك الاجتماعي ويجتهد في تشريح فئات المجتمع.
   أثناء تربصك للحظة مناسبة يكون هو في حالة استرداد لأنفاسه واستجماع لأفكار مشتتة للتنكيل بك، تحاول إخبار المضيف أنك بحاجة لدخول الحمام. وبمجرد أن تلتفت إليه، يزداد محدثك ضراوة في ما يبدو أنه حرص على عدم خسارة مستمع جيد. "طيب بس لو تسمح لي////"، "لا لا معليش. خليني بس أكمّل كلامي بالنقطة هذي تحديدا وبعدين قول اللي تشتي..." أنت لم تعد تعرف أية نقطة يقصدها، لكنه يصرّ على الاستمرار: "أقصد انه......" يتوقف كمن يتذكر آخر عبارة قالها، وتواتيك الفرصة لاستئذانه في الالتفات إلى المضيف لطلب الحمام، لكنه لا يسمح لك بتجاوز عبارة الاعتذار عن المقاطعة ويستأنف الثرثرة بعبارة تقدّر أنت أنها ملفقة على موضوع الحديث بهدف إبقائك في حالة الاستماع، أو لكي لا يسبقه أحد في الكلام.
   في الوقت الذي تتصاعد فيه أزمتك الجديدة مع البول، تفكر بطريقة أكثر فاعلية من اللجوء إلى قارورة الماء. تواتيك فرصة ثانية للإفلات، مستغلاً تلكؤه المتحاذق جراء انتباهه إلى قصور العبارة الملفقة عن الوصول إلى طرف الموضوع، لكن شخصاً ثالث يتدخل بشهادة واثقة النبرة على رصانة أفكار محدثك، كما لو أنه تلقى رشوة قبل الدخول إلى المقيل للإدلاء بهذه الشهادة. يلتفت ثرثارك إلى المداخلة/الشهادة التي تضمنت عبارة التقطها من كلامه الشخص الثالث قبل نصف ساعة، في محاولة للهروب من تسلط ثرثار آخر بدا أنه أكثر ضراوة من محدثك، وهو الآن (المتدخل) يعيد صياغتها بطريقة تبرز تفوق قائلها الأصلي. هنا، وكرد للمجاملة، يعود ثرثارك اللعين إلى موضوع الـ/ماقبل نصف ساعة الذي لم يعد يتذكره محاولا إثبات عبقريته على حساب مثانتك. تفكر باللجوء إلى دافع المقاطعة الفجة، الذي سبق أن فكرت به، لإخبار المضيف عن حاجتك لاستخدام الحمام، لكنه هو الآخر منهمك في الثرثرة لمستمع عصي على الترويض. تلجأ إلى قارورة الماء لتغذية دافع المقاطعة هذا، لكي لا يبدو احتياج الحمام وسيلة هروب من تسلط نشوة قات (نزّي) لا ينبغي إحراجها. تشعر بالحرج وأنت تجهد نفسك للفت انتباه المضيف الذي يجلس بعيدا عنك بسبعة (مداكي)، مع حرص على عدم إثارة انتباه محدثك. ورغم أن محدثك اشتبك لتوه مع محدث المستمع الآخر- صاحب شهادة العبقرية- حول الجدوى من الفكرة المتضمنة داخل العبارة الشاهدة بالعبقرية، إلا أنك لا تزال تشعر برعب أن يلتفت إليك. وبطبيعة الحال، فقد بدا محدث المستمع الآخر مستبسلاً في التقليل من أهمية فكرة محدثك، كما لو أنه مغتاظ من ذهاب شهادة العبقرية والإعجاب إلى متحدث آخر.
   بالطبع أنت غير معني بالتركيز على كلا الفكرة والعبارة، ولا بما يقوله جميع المتحدثين أو بورطة المستمعين المطيعين. ما يشغلك محصور في لفت انتباه المضيف إلى أنك لم تعد قادراً على سماع الأفكار التي تدر البول، وأفضل فكرة قد تحضرك في لحظة كهذه هي أن مركز التحكم بعملية التفكير برمتها مرتبط في المثانة بدلا من الدماغ.  لكن محدثك يستنجد بك لمساعدته على التصدي لمحاولة السطو على الشهادة السابقة: "... ... ... لازم نفكر صح."، وصح هذه متزامنة مع التفاتة طلب المؤازرة، ومتداخلة أيضا، بفارق زمني بالكاد يلاحظ، مع مبادرتك السريعة بالمؤازرة بنفس الكلمة: "صح.."، واسترسالك في الكلام ولكن باتجاه المضيف: "الحمام فاضي يا أستاذ...". لوهلة، تبدو كما لو أنك  نسيت اسمه، لكن أكثر من اسم يمكن أن تستعرضها ذاكرتك بالتناوب لا تسعفك بالاسم الصحيح. وفي الوقت الذي تدرك أنك لا تتحكم بنسيانك وكذلك وقوفك المفاجئ لدخول الحمام، ينبهك مستمع يحاول الهروب من متسلط آخر بجانبهٍ إلى أن أحدا قد سبقك لإفراغ مثانته. الفكرة الذهبية هنا، هي أن فرصة كهذه لمغادرة مقيل الـ"ما يجب أن يكون"، لن تتكرر. تلملم أغراضك إلى داخل "كيس الدعاية" وتستأذن بالانصراف.
  في الطريق تفكر بمكان آخر تذهب إليه في المساء، وما زال بحوزتك ما يكفي من القات لتخزينة "الشوط الثاني". تهم بإخراج القات الممضوغ من فمك، لكي تريح وجنتك قليلا، لكن مشهد "نجعة القات" التي رمى بها شاب متأنق من نافذة سيارته إلى وسط الشارع، تشعرك بالتقزز. يتمضمض لتنظيف فمه من أثر القات ويبصق في الشارع أيضاً ثم يطلب شاي بالحليب، يتحسس بمخلال خشبي بقايا القات بين أسنانه بطريقة مبالغ بها ويبدأ بنتف ذقنه. ستكون حالتك هكذا بعد قليل، لكنك بحاجة إلى حمام أولاً، وليس من قبيل المصادفة المفتعلة أن تجد أحدهم مقرفص عند إطار سيارة وفي جهة لا يصلها الضوء الداكن لإنارة الشارع، يفرغ مثانته دون حرج من أن يفضحه سيلان بوله إلى وسط الشارع. معظمهم يفعلون ذلك لأن حالة ما "بعد القات" لا تجعلهم يفكرون باللياقة، وبخاصة إذا كانوا قضوا مقيلهم كمستمعين فقط.
***
   لا أعرف بماذا يفكر هؤلاء كل يوم بعد القات، لكن الشائع هو شعورهم بالإحباط من الوضع العام الذي يعيشونه، ولا يحبون التفكير في ما كانوا يلوكونه من ثرثرات عما يجب أن يكون عليه الوضع، كما لا يحبون التفكير في أوضاعهم الخاصة أبعد من الانشغال بكيف سيقضون مقيل الغد.
  شربت إلى الآن كأسين من الشاي بالحليب ولا أستطيع أن أمسك بفكرة واحدة مما يدور في ذهني. أعرف فقط أن عقلي يعمل بسرعة قصوى من موضوع إلى آخر، ولا أطيق سماع أي صوت موجه لي. يحترق العالم، تنهار المدينة، تشتعل حرب، لا أريد أن أكون معنياً بشيء. أمر واحد يمكن أن أفكر به بجدية؛ وهو إلى أين يذهب سمسار معاملات مثلي غداً؟ كيف أستطيع إقناع المعاملين والمدراء المتنمرين بأني أكثر سماسرة المعاملات الحكومية التزاماً وأخلاقاً، وكيف أبتزهم بكوني أملك هذه الصفات؟
  لا تظنوا أني لا أدرك تشابهي الكبير مع كل من يعيشون حولي وأعيش بينهم. حتى إذا لم نرغب بحدوث هذا التشابه، فنحن نعيش في محيط واحد ونحرص على أن نكون متشابهين، نحتال على بعضنا البعض طوال الوقت، نقضي ساعات المقيل في مجالس متشابهة ونشرب الشاي بالحليب في مقاه متشابهة، نتبول عند أركان البنايات وبجانب إطارات السيارات في المواقف العامة والمواقف المخالفة لقوانين المرور، ونثرثر في المجالس وعلى المقاهي عن شئون الوضع العام و "ما يجب أن يكون"، ونعبر بإفراط عن أمنيات يائسة في أن تشبه بلادنا البلدان المتقدمة.