الثلاثاء، 10 مايو 2011

إغواء القفز إلى الواجهة


لطف الصراري
باتت الثورة مخيفة الآن أكثر من أي وقت مضى، حتى حين كانت الرصاصات متفاوتة الأحجام تنطلق، حاصدة في طريقها عشرات الشهداء ومئات الجرحى في ساحات وشوارع التغيير والحرية. صحيح أن الترصد البوليسي لأجهزة الأمن وأعوانها كان مقلقا أكثر من الرصاص، لكنه لم يتمكن من إعاقة الرغبة في التغيير، أقول التغيير وليس "التحول" الذي كنت حينها متمسكاً بجدوى أن تحدثه الثورة، بعيداً عن إغواءاتها وبطولاتها، واضطراراتها أيضاً.
إحدى إغواءات الثورة هي القفز إلى الواجهة، أو الانجرار- ولو بشكل اضطراري- إلى خيار العنف، الذي حاول الرئيس صالح مراراً جرّ الشباب إليه. نجح شباب الثورة في مقاومة إغواء السلاح، رغم توفر غطاء القضية العادلة التي يحملونها، لكن من قفزوا إلى الواجهة مبكراً، على قلتهم، أعاقوا قدرة الفعل الثوري، بمفهومه الجديد، على إيصال الثورة إلى نهاية حاسمة.

بعد فشل النظام في جر الساحات إلى الخيار العسكري، لجأ إلى نكز أحزاب المعارضة إلى المربع السياسي. كلا الخيارين يجيد صالح اللعب في نطاقهما، لكن خيار "إسقاط النظام" عبر الساحات، كان جديداً على خبرته. فهو لم يعرف أن رئيساً يمنياً، أو حتى عربياً، أُسقط بطريقة غير الانقلاب، لذلك ظل يستفز اللقاء المشترك بوصفه تحالفا انقلابيا وظلاميا وما إلى ذلك. لم تكن أحزاب "المشترك" بحاجة إلى درجة قصوى من الاستفزاز كي يقفز عدد من قياداتها إلى الواجهة. تصريحات محمد قحطان، بشأن الزحف، بالتزامن مع تأييد علي محسن لثورة الشباب السلمية، وحميد الأحمر، الذي ظل ظهوره الإعلامي متدرجاً ونادراً قبل المبادرة الخليجية ثم عودته للاحتجاب في معمعة المبادرة. وكل ما رافق تلك الأخطاء في مرحلة حساسة من عمر الثورة، منحت الرئيس صالح قدرة على المناورة؛ سياسياً مع أحزاب المشترك، وعسكرياً مع الفرقة الأولى والمحور الشمالي الغربي لعلي محسن الأحمر. وحتى ذلك الحين، لم يكن طُعم المبادرة الخليجية قد ظهر على سنارة الخلاص، لكنه كان فاعلاً في جرّ الثورة إلى الواجهة السياسية كبديل اضطراري للمشترك والخليج، وللواقع اليمني، عن حرب أهلية لا يبدو صالح متردداً في إشعالها، ومازال.
***
  أكتب هذا معتمداً انطباعا تشكل لديّ خلال 3 أشهر من عمر ثورتنا الطويلة، لذلك لا أحد يتعب نفسه في اصطياد أي خطأ هنا في حال اعتقدتم أن هذه قراءة تاريخية أو تحليلية لهذه الفترة. "الذاكرة شيء مضحك". هذا ما كتبه الروائي الياباني هاروكي موراكامي في "الغابة النرويجية"، عندما تذكر بطلها مشهداً منذ 20 سنة في المرج ذات يوم مع حبيبته. لم يقف للتفكير بالمشهد في حينه، ثم يفكر بعد هذه السنوات بما كان عليه يومها وتفاصيل أخرى لم يتخيل أنه قادر على استعادتها.
   ومع أخذ الفارق، فإن ما أكتبه هنا هو انطباع تشكل لدى شخص رصيده الثوري منخفض، لكنه مازال يؤمن بكونه مواطناً يمنياً، ولديه الحق في أن يتحدث عن لهفته التي لم يكن يواربها حين سماع الأغاني الوطنية القديمة بنكهة جديدة، وعن شعوره بالانتماء إلى وطن يتسع للجميع، كان بادئاً بالتشكل في ظل بشارة نظام جديد. لقد كانت هتافات الساحات وخيامها وصلاتها، تمنحني شعوراً بأني سأحظى بظروف حياة جيدة وعادلة في النظام الجديد. كان مسار الثورة يدفع بنا نحو بداية تحوّل لن نندم عليه، لكن هذا المسار بات الآن متجهاً إلى توافقات تحت رعاية الخليج ودول الغرب، وليس إلى صناعة مستقبلنا بأيدينا. ومع ذلك، أشعر بالعبث حين يجد علي عبدالله صالح طريقة جديدة للتلاعب بأحلامنا، والتلاعب بمخاوف ما درجنا على تسميته بالقوى السياسية. أشعر بالعبث لأن قوة واحدة فقط بإمكانها هزيمة هذا النظام: قوة الساحات التي كانت حاضنة لإرادة شعب وليس للانشقاقات القادمة من وإلى صف الثورة. ما أسوأ التلاعب بحلم موحد لشعب يتوق غالبيته إلى كينونة أخرى خالية من العنف والصراعات ذات المستوى التدميري، خالية من الجهل بأخطاء القفز إلى واجهة "أحادية الرؤية".
فكرت بالكتابة لأجل الثورة كي أرفع من رصيدي الثوري، وبالتالي استحقاق أن أتحدث عن أحلامي التي تشبه قطعاً قماشية مازالت مبللة في طشت غسيل، أما الآن فأعرف أن أي رصيد ثوري لن يمنحني كينونة أخرى في ظل هذا السعي الدؤوب للأشقاء والأصدقاء وهذا الاسترخاء "المشترك" في الداخل تحت عباءة واقع مفروغ منه، ومع كل محاولة للكتابة بهذا الصدد مؤخراً، كانت تحضرني الأفكار المتشائمة والكلمات الريبية. "هذا ليس توقيت جيد لمثل هذه الكتابة المحبطة." قد ينصحني بهذا صديق ثوري أو هادئ في أقصى درجات تسامحه، وسأطرق برأسي خجلاً قبل أن أغادر المكان على الفور، مثقلاً بأحلام تتحطم على واجهة لم أقفز إليها، ولا أنوي القفز عليها. ومع ذلك تظلّ الثورة شعبية شبابية، وسأعمل على أن تستمر هذه الثورة بنقائها الأول، حين كانت معطيات الثورة تختط مساراً يرتسم معه مستقبل أقلّ غموضاً.
  في النهاية، يموت البطل أو ينتصر، لكني حال العودة إلى داخل الذات، أكتب ما يعتبره الأبطال غير ملائم، متمسكاً بحقي في أن أكون من أريد، رغم أن الأمل لا يزال مستمراً في أبطال حقيقيين لا يقفزون إلى الواجهات بمنطاد إرادة شعب، كما لا يسمحون بالاستخفاف بهذه الإرادة، سواءً من قبل القوى السياسية (الجبارة) داخل اليمن أو أي طرف خارجي يحاول باستمرار أن يتوغل في أعماقنا. بإمكان أي شخص لا يتحلى بالنباهة أن يلاحظ أن إرادة الشعب تلك، لم تعد كما كانت عليه قبل 3 أشهر. هل مازال الوقت غير ملائم؟