الخميس، 28 مارس 2024

الترجمة الكاملة لحوار ويليام فوكنر بمجلة باريس ريفيو

 

فوكنر كما يقدّم نفسه

"لا شيء بإمكانه أن يدمر الكاتب الجيد"



حاورته جين ستين 

ترجمة: لطف الصراري

منتصف العام 2016، عثرت على هذا الحوار أثناء بحثي عن مادة أدبية أنشّط بها مهاراتي الخاملة باللغة الانجليزية. سأحكي قصة ترجمته بعد آخر سطر منه مباشرة، لأن محتواه المكثف بالكاد يحتمل تقديم جين ستين؛ الكاتبة الأمريكية التي حاورت فوكنر، لمجلة "باريس ريفيو"، في مدينة نيويورك مطلع العام 1956.

مقدمة المحاورة

 ولد ويليام فوكنر (William Faulkner) عام 1897، [25 سبتمبر/ أيلول 1897 – 6 يوليو/ تموز 1962] في نيو ألباني بولاية مسيسيبي، حيث كان والده حينها قاطع تذاكر في سكة الحديد التي بناها جده الأكبر، الكولونيل ويليام فوكنر (William Falkner) (بدون حرف u)، وهو مؤلف "وردة ممفيس البيضاء". انتقلت العائلة مبكراً إلى أكسفورد- على بعد 35 ميلاً، حيث فشل فوكنر الشاب في تحقيق العلامات الدراسية الكافية للتخرج من المدرسة الثانوية في المنطقة. عام 1918 تم تسجيله كطالب طيران في القوات الجوية الملكية الكندية. كما قضى أكثر من عام بقليل، طالباً بصورة استثنائية في جامعة الولاية (Ole Miss)، ولاحقاً عمل مديراً للبريد في مركز الجامعة حتى طرد من وظيفته بسبب القراءة أثناء العمل.

بتشجيع من شيروود أندرسون، كتب فوكنر "راتب جندي" عام 1926. أما أول كتاب له حقق قراءة واسعة فقد كان "الملاذ" (1931)؛ الرواية المدهشة التي قال إنه كتبها لأجل النقود بعد أن فشلت كتبه السابقة- بما فيها "البعوض" (1927) "سارتوريس" (1929) "الصخب والعنف" (1929) و "بينما أرقد محتضرة" (1930)- في تحقيق عائدات كافية لإعالة أسرة.

تبع ذلك نجاح منتظم لرواياته، التي تتعلق معظمها بما صار يسمى (Yoknapatawpha saga) (ملحمة يوكناباتاوفا): "نور في آب" (1932) "بايلون" (1935)، "أبسالوم أبسالوم!" (1936)، "الذي لا يقهر- The Unvanquished" (1938)، "النخيل البري" (1939)، "ذا هاملت" (1940) و "اهبط يا موسى وقصص أخرى" (1941). منذ الحرب العالمية الثانية كانت أعماله الرئيسية "المتطفل على الغبار" (1948)، "خرافة" (1954) و "المدينة" (1957). في العام 1951 فازت مجموعته القصصية بجائزة الكتاب الوطني، وبالمثل روايته "خرافة" العام 1955. وفي العام 1949 فاز فوكنر بجائزة نوبل للآداب.

 مؤخراً، رغم كونه خجولاً ومنطوياً على نفسه، سافر فوكنر على نطاق واسع ليلقي محاضرات لصالح مؤسسة الخدمة العامة في الولايات المتحدة.

إلى الحوار:

  

• سيد فوكنر؛ قلت منذ فترة إنك لا تحب المقابلات.

- السبب في عدم حبي للمقابلات هو أن ردي يبدو عنيفاً إزاء الأسئلة الشخصية. إذا كانت الأسئلة حول العمل، فأنا أجيب عليها. عندما تكون عني، ربما أجيب وربما لا، لكن حتى لو أجبت، فربما تختلف إجابتي إذا وجهت لي الأسئلة نفسها غداً.

• ماذا عن نفسك ككاتب؟

- لو لم أوجد، كان بإمكان أي شخص آخر أن يكتبني، هذا ينطبق على هيمنجوي، دوستويفسكي، جميعنا. دليل ذلك أنه يوجد ثلاثة مرشحين تقريباً ليكونوا مؤلفين أصليين لمسرحيات شكسبير. لكن المهم هي "هاملت" و"حلم منتصف ليلة صيف"، وليس من كتبها، غير أن ذلك الشخص قد فعل ذلك. الفنان ليس له أهمية. المهم هو ما يبدعه فقط، بما أنه لا شيء جديد ليقال. شكسبير، بلزاك، هوميروس، جميعهم كتبوا حول الأمور ذاتها، ولو أنهم عاشوا ألف أو ألفي سنة أخرى، لما احتاج الناشرون لأحد منذ ذلك الوقت.

• لكن حتى لو بدا أنه لا يوجد شيء جديد ليقال، أليست فردانية الكاتب مهمة ربما؟

- مهمة جداً بالنسبة له. أما الآخرون جميعاً فلا بد أنهم منشغلون جداً بالعمل عن الاهتمام بالفردانية.

• وماذا عن معاصريك؟

- جميعنا أخفقنا في الوصول إلى حلمنا بالاكتمال. لذلك أصنفنا على أساس فشلنا الرائع في فعل المستحيل. برأيي أني لو تمكنت من كتابة كل أعمالي مرة أخرى، فأنا على ثقة بأني سأفعل ذلك بشكل أفضل، ذلك هو الوضع الأكثر صحية للفنان. لذلك ينكب على العمل، محاولاً من جديد؛ كل مرة يعتقد بأنه سيفعلها هذه المرة، سينجح فيها. طبعاً هو لن يفعلها، وذلك ما يفسر كون هذا الوضع صحي. تارة يفعلها، وأخرى يصل بالعمل إلى مستوى التصور، الحلم، لا شيء يبقى عدا قطع حنجرته، اجتياز الضفة الأخرى لتلك الذروة الخاصة بالاكتمال نحو الانتحار. أنا شاعر فاشل. ربما أن كل روائي يريد أن يكتب الشعر أولاً، يجد أنه لا يستطيع، ثم يحاول مع القصة القصيرة، وهي الأكثر إلحاحاً بعد الشعر. وعندما يفشل في ذلك، حينها فقط، يهتم بكتابة الرواية.

• هل هناك أية وصفة يمكن اتباعها لكي تكون روائياً جيداً؟

- تسعة وتسعون بالمائة موهبة... تسعة وتسعون بالمائة انضباط... تسعة وتسعون بالمائة عمل. يجب ألا يكون مقتنعاً بما ينجزه أبداً. لا يقتصر الأمر على كون العمل جيداً بأفضل ما يمكن فعله. احلم دائماً وصوّب أعلى مما تعرف أنك تستطيع فعله. لا تتضجر فقط لتكون أفضل من معاصريك أو سابقيك. حاول أن تكون أفضل من نفسك. الفنان مبدع تقوده شياطين. لا يعرف لماذا تختاره هو، وغالباً هو مشغول جداً بحيث لا يتساءل باندهاش عن سبب ذلك. وهو فاقد لحس المسؤولية الأخلاقية تماماً في ما سوف ينهبه، يستعيره، يتسوله أو يسرقه من أي شخص ومن كل شخص لينجز العمل.

• هل تعني بأن على الكاتب أن يكون عديم الرحمة بصورة كاملة؟

- مسؤولية الكاتب الوحيدة هي تجاه فنه. سيكون عديم الرحمة بصورة كاملة لو أنه شخص طيب. إن لديه حلم. وهو يعذبه كثيراً بحيث يتوجب عليه التخلص منه، ولن يحظى بالسلام حتى يفعل ذلك. كل شيء يوضع جانباً: الشرف، الكبرياء، اللياقة، الأمان، السعادة، كل شيء، من أجل أن يُكتب الكتاب. إذا كان على كاتب ما أن يسطو على أمه، فلن يتردد؛ "قصيدة على جرة إغريقية" تساوي أي عدد من السيدات العجائز.

• إذن، هل بإمكان فقدان الأمان، السعادة، الشرف، أن يكون عاملاً مهماً في إبداع الفنان؟

- لا. هي مهمة فقط لسلامه واطمئنانه، والفن لا يقلق حيال السلام والطمأنينة.

• إذن، ما هي أفضل بيئة ممكنة للكاتب؟

- الفن غير معني بأية بيئة. إنه لا يكترث بمكانها. إذا كنت تقصديني، فإن أفضل عمل عرض عليّ على الإطلاق، كان أن أصبح مديراً لبيت دعارة. برأيي أنه محيط مثالي لفنان ما ليعمل فيه. ذلك يمنحه حرية اقتصادية مطلقة؛ فهو متحرر من الخوف والجوع؛ لديه سقف فوق رأسه وليس لديه أي شيء يفعله باستثناء الاهتمام بالقليل من الحسابات البسيطة، والذهاب مرة كل شهر لدفع مكافأة للشرطة المحلية. المكان هادئ خلال ساعات الصباح، وذلك هو أفضل وقت في النهار للعمل. هناك ما يكفي من الحياة الاجتماعية في المساء، إذا كان يرغب بالمشاركة فيها، لتبعده عن الضجر؛ وهي تمنحه مكانة في مجتمعه؛ ليس لديه ما يفعله لأن السيدة تمنع الكتب؛ كل نزلاء الدار إناث، ويمكن أن يخضعن له وينادينه "سيدي". كل مروجي الخمور في الجوار يمكن أن ينادوه "سيدي". وهو يستطيع أن ينادي رجال الشرطة بأسمائهم الأولى.

ولذا، فإن البيئة الوحيدة التي يحتاجها الفنان هي السلام التام، العزلة التامة والمتعة التامة، والتي يستطيع الحصول عليها بدون كلفة عالية. كل بيئة غير مناسبة سوف ترفع ضغط دمه؛ سوف يمضي الكثير من الوقت محبطاً وحانقاً. تجربتي الخاصة تتلخص في أن الأدوات التي أحتاجها لعملي هي الورق، التبغ، الطعام والقليل من الويسكي.

• تقصد البوربون؟

- لا. ليس ذلك ما عنيته بالتحديد. فبين الإسكوتش واللاشيء، سوف آخذ الاسكوتش.

• أشرت إلى الحرية الاقتصادية. هل يحتاجها الكاتب؟

- لا. لا يحتاج الكاتب للحرية الاقتصادية. كل ما يحتاجه قلم رصاص وبعض الورق. لم أعرف أي شيء جيد في الكتابة يأتي من قبول أية منحة مالية بالمجان. الكاتب الجيد لا يتقدم بطلب إلى مؤسسة. إنه مشغول جداً بكتابة شيء ما. إذا لم يكن مصنفاً في المقدمة، فإنه يخدع نفسه بالقول إنه لا يجد الوقت أو الحرية الاقتصادية. الفن الجيد يمكن أن يأتي من اللصوص، مروجي الخمور أو من سائسي الخيول. الناس في الحقيقة خائفون من أن يكتشفوا حجم القسوة والفقر اللذان يمكن أن يواجهوهما. خائفون من أن يكتشفوا أي قساة هم. لا شيء بإمكانه أن يدمر الكاتب الجيد. الشيء الوحيد الذي يمكن يعيق الكاتب الجيد هو الموت. الجيدون لا يجدون الوقت للتعلل بالنجاح أو بأن يصيروا أغنياء. النجاح أنثوي ويشبه المرأة؛ إذا تذللت أمامها سوف تمتطيك. ولذا فإن الطريقة المناسبة للتعامل معها هي أن تريها ظهر كفك. حينها يمكن أن تأتي زاحفة.

• هل يمكن للعمل لصالح السينما أن يضر كتابتك الخاصة؟

- لا شيء بإمكانه أن يؤذي كتابة المرء إذا كان كاتباً من الدرجة الأولى. إذا لم يكن كاتباً من الدرجة الأولى، فلا شيء بإمكانه أن يساعد كتابته كثيراً. المشكلة لا تنطبق عليه إذا لم يكن من الدرجة الأولى لأنه باع روحه مسبقاً لبركة سباحة.

• هل الكاتب يقايض بكتابته للسينما؟

- دائما. لأن الصورة المتحركة هي بطبيعتها تعاون مشترك، وأي تعاون مشترك هو مقايضة، ولهذا السبب أخذت الكلمة معناها- أن تعطي وتأخذ.

• من هم أكثر الممثلين الذين تحب أن تعمل معهم؟

- همفري بوجارت واحد من أفضل من عملت معهم. لقد عملنا معاً في "أن تملك أو لا تملك"، و "النوم العميق".

• هل ترغب في عمل سينمائي آخر؟

- نعم، أود أن أصنع فيلماً عن رواية جورج أورويل "1984". لدي فكرة لنهاية من شأنها أن تثبت فرضية دائما ما أطرقها: أن الإنسان لا يمكن تدميره بسبب إرادته البسيطة للحرية.

• كيف تصل إلى أفضل النتائج في العمل لصالح السينما؟

- عملي الخاص في الصورة المتحركة، والذي بدا أنه الأفضل بالنسبة لي، تم إنجازه من قبل الممثلين، بينما الكاتب يرمي المسودة بعيداً ويخترع المشهد بإعادة سرده تماماً أمام الكاميرا المفتوحة. لو لم آخذ، أو لم أشعر بأني قادر على أخذ العمل في الصورة المتحركة على محمل الجد، بمعزل عن الإخلاص البسيط للفيلم السينمائي ولنفسي أيضاً، كان من المحتمل ألاّ أحاول. لكني أعرف الآن أني لن أكون كاتباً سينمائياً جيداً على الإطلاق؛ لهذا فإن ذلك العمل لن يكون ملحاً بالنسبة لي أبداً كما هو إلحاح عالمي الخاص.

• هل لك أن تعلق على تجربة هوليوود الأسطورية التي ارتبطت بها؟

- كنت أنهيت للتو عقداً لدى "MGM" (شركة مترو غولدوين ماير) وكنت على وشك العودة إلى دياري. قال المخرج الذي أعمل معه: "إذا رغبت في عمل آخر هنا، أبلغني فقط، وسوف أتحدث مع إدارة الاستوديو عن عقد جديد". شكرته وعدت إلى المنزل. بعد ستة أشهر أبرقت لصديقي المخرج بأني أرغب بعمل آخر. بعد ذلك بوقت قصير، تلقيت رسالة من وكيلي في هوليوود متضمنة شيك الراتب لأول أسبوع. تفاجأت لأني كنت أتوقع أن يصلني أولاً إشعار رسمي أو استدعاء وعقد من الأستديو. قلت لنفسي: لقد تم تأجيل العقد وسوف يصل في البريد التالي. بدلا من ذلك، وصلتني بعد أسبوع رسالة أخرى من الوكيل، متضمنة شيك الراتب للأسبوع الثاني. بدأ ذلك في نوفمبر 1932 واستمر حتى مايو 1933. حينها تلقيت برقية من إدارة الاستديو. تقول البرقية: "ويليام فوكنر، أوكسفورد، ميس. أين أنت؟ MGM ستوديو."

رددت ببرقية مماثلة: "MGM ستديو، كولفير سيتي، كاليفورنيا. ويليام فوكنر."

قالت العاملة الشابة: "أين الرسالة سيد فوكنر؟" قلت: "هذه هي." قالت: "التعليمات تقول إنه لا يمكنني إرسال البرقية بدون رسالة، عليك أن تقول شيئاً." وهكذا رحنا نتفحص نماذجها واخترنا واحداً منها- نسيت أي نموذج، لكنه كان لإحدى رسائل المعايدة المغلفة. أرسلت ذلك النموذج. لاحقاً تلقيت مكالمة هاتفية من الاستديو توجهني بالقدوم على أول طائرة متجهة إلى نيو أورليانز، وأن أبلغ المخرج براونينج بقدومي. كان بإمكاني ركوب قطار في أكسفورد وبعد ثمان ساعات أكون في نيو أورليانز، لكني امتثلت لتوجيهات إدارة الاستديو وذهبت إلى ممفيس، حيث كانت تغادر طائرة، من حين لآخر، إلى نيو أورليانز. بعد ثلاثة أيام، غادرت واحدة.

وصلت إلى فندق السيد براونينج حوالي الساعة السادسة مساءً، وأبلغته بقدومي. كان هناك حفلة ما تزال مستمرة. أخبرني بأن أنام جيداً تلك الليلة، والاستعداد لانطلاقة مبكرة في الصباح. سألته عن القصة. قال: "أوه، نعم. اذهب إلى غرفة فلان الفلاني- إنه كاتب السيناريو. سوف يخبرك ما هي القصة."

ذهبت إلى الغرفة بحسب التوجيه. كان كاتب السيناريو يجلس هناك بمفرده. عرّفته بنفسي وسألته عن القصة. قال: "عندما تكمل كتابة الحوار سوف أسمح لك بأن ترى القصة." عدت إلى غرفة براونينج وأخبرته بما حدث. قال: "عُد إلى فلان الفلاني ذاك، وأخبره أن الأمر لا يهم. عليك أن تنام جيداً هذه الليلة وبإمكاننا البدء في الصباح الباكر."

وهكذا أبحرنا في الصباح التالي في زورق مستأجر فخم جداً، جميعنا ما عدا كاتب السيناريو- إلى (الجزر الكبرى)، على مسافة مائة ميل، حيث كانت تلتقط الصور. وصلنا هناك وقت الغداء تماماً، وكان لدينا الوقت لنذرع المائة ميل عائدين إلى نيو أورليانز قبل حلول الظلام.

استمر ذلك لثلاثة أسابيع. وبين وقت لآخر، كنت أقلق قليلاً بشأن القصة، لكن براونينج كان يقول دائماً: "توقف عن القلق. نم جيداً هذه الليلة وبإمكاننا الحصول على بداية مبكرة صباح الغد."

ذات ليلة، وعلى إثر عودتنا، بالكاد دخلت غرفتي عندما رن الهاتف. كان ذلك براونينج. طلب مني الحضور إلى غرفته فوراً. فعلت ذلك. كان لديه برقية تقول: "فوكنر مطرود. MGM استديو". "لا تقلق." قال براونينج. "سوف أذكّر ذلك الفلان الفلاني- هذه اللحظة، ليس فقط لجعله يعيدك إلى كشف الراتب، بل ليرسل إليك اعتذاراً مكتوباً." كان هناك طَرْق على الباب في تلك اللحظة؛ وصلت برقية أخرى تقول هذه المرة: "براونينج مطرود MGM ستديو"، وهكذا عدت إلى البيت. أفترض أن براونينج ذهب إلى مكان ما هو الآخر. وأتصور أن كاتب السيناريو ذاك لا يزال يجلس في غرفة بمكان ما، قابضاً بإحكام على شيك راتبه الأسبوعي في يده. لم ينهوا الفيلم أبداً، لكنهم شيدوا قرية للروبيان (الجمبري)- رصيف طويل مدعم بركائز في الماء وسقائف بنيت فوقه- شيء ما يشبه رصيف المرفأ. من المحتمل أن الاستديو كان اشترى العشرات منها مقابل أربعين أو خمسين دولاراً لكل قطعة. وبدلاً من ذلك، بنوا رصيفاً من بنات أفكارهم، رصيفاً مخالفاً، أي رصيف بجدار وحيد فوقه، بحيث أنك عندما تفتح الباب وتخطو من خلاله، فإنك تطل تماماً على المحيط نفسه. عندما بنوه، في اليوم الأول، جدف صياد كاجوني[[1]] بزورقه الصغير المصنوع من قطعة كبيرة من الخشب المجوف، وجلس بداخله طوال النهار تحت الشمس الحارقة، يشاهد أقاربه البيض الغرباء يشيدون هذه المحاكاة الغريبة للرصيف. في اليوم التالي، عاد بالزورق نفسه مع جميع أفراد العائلة. زوجته وهي ترضع الطفل، الأطفال الآخرين، وحماته، جلبهم كلهم ليجلسوا طوال النهار تحت الشمس الحارقة، ليشاهدوا هذا النشاط المضحك وغير المفهوم. كنت في نيو أورليانز بعد ذلك بسنتين أو ثلاث، وسمعت أن مجتمع الكاجون كانوا لا يزالون يأتون من مسافة أميال ليتأملوا رصيف الروبيان المزيف ذاك، الذي تدفق لبنائه الكثير من الناس البيض ثم هجروه.

• أنت تقول إن الكاتب يجب أن يساوم للوصول إلى تسوية في العمل لصالح السينما. ماذا عن كتابته؟ هل هو واقع تحت أي التزام لقارئه؟

- التزامه يتمثل في إنجاز العمل بأفضل ما يستطيع فعله. أيّاً كان الالتزام الذي تخلى عنه، يستطيع فيما بعد أن يضحي بأية طريقة تعجبه. شخصياً أنا في غاية الانشغال لكي أهتم بشأن الجمهور. ليس لدي الوقت لكي أتساءل من الذي يقرؤني. لا أكترث برأي فلان في عملي أو عمل أي شخص آخر. عملي هو المعيار الذي يجب أن يُتعرف عليه، أي عندما يجعلني العمل أشعر بما عليّ فعله، عندما أقرأ "إغواء القديس أنطونيو" أو العهد القديم. إنها تجعلني أشعر بشعور جيد. ولذا، هل تجعلني مشاهدة طائر ما أشعر بشعور جيد. كما تعرفين أني لو كنت متقمصاً، فسأرغب بالتحول إلى صقر. لا شيء يكرهه أو يحسده أو يريده أو يحتاجه. وهو ليس عرضة للإزعاج أو واقع في الخطر، ويستطيع أن يأكل أي شيء.

• ما هي التقنية التي تستخدمها للوصول إلى معيارك؟

- بوسع الكاتب أن ينشغل بالجراحة أو بناء الطوب إذا كان مهتماً بالتقنية. لا توجد طريقة ميكانيكية لإنجاز الكتابة، لا توجد طريقة مختصرة. الكاتب الشاب سيكون أحمقاً في حال اتبع نظرية. تعلّم من أخطائك؛ الناس يتعلمون فقط عن طريق الخطأ. الكاتب الجيد يؤمن بأنه لا أحد جيد بما يكفي ليسديه النصح. لديه غرور فائق. بغض النظر عن مدى إعجابه بكاتب قديم، فهو يريد أن يتفوق عليه.

• هل تنكر صلاحية التقنية أيضاً؟

- على الإطلاق. أحياناً التقنية تصدر الأوامر وتتولى قيادة الحلم قبل أن يضع الكاتب يده عليه. أي أنها دورة إجبارية، بينما العمل المنجز هو ببساطة مسألة تركيب الطوب جنباً إلى جنب بعناية، منذ أن يكون الكاتب قد عرف كل الكلمات الصحيحة من البداية إلى النهاية، قبل أن يدون الكلمة الأولى. حدث هذا في "بينما أرقد محتضرة". لم تكن سهلة. ليست عملاً ساذجاً. كانت بسيطة في كون كل الأدوات في متناول اليد مسبقاً. وقد استغرقت مني حوالي ستة أسابيع فقط من العمل اليدوي بمعدل اثنتي عشرة ساعة يومياً. ببساطة، تخيلت مجموعة من الناس وأخضعتهم لكوارث طبيعية عامة وبسيطة، تمثلت بفيضان وحريق، مع دافع طبيعي بسيط لتوجيه تطورهم. عدا ذلك، عندما لا تتدخل التقنية، بمعنى آخر، تكون الكتابة أسهل كثيراً. لأنه بالنسبة لي، هناك دائماً نقطة في الكتاب، حيث يثور الشخوص أنفسهم ويتولوا مسؤولية إنهاء العمل- لنقل مثلاً في الصفحة 275. بالطبع أنا لا أعرف ما الذي يمكن أن يحدث لو أنهيت الكتاب عند الصفحة 274. الميزة التي يجب أن يتحلى بها الفنان هي الموضوعية في الحكم على عمله، إضافة للإخلاص والجرأة، وألا يضحك على نفسه بهذا الخصوص. بما أن عملي لم يتوافق مع معاييري الخاصة، فيجب عليّ أن أحكم عليه مقارنة بذلك الذي سبب لي المرارة والعذاب البالغين، تماماً كالأم التي تحب الولد الذي أصبح لصاً أو قاتلاً أكثر من ذلك الذي أصبح كاهناً.

• ما هو ذلك العمل؟

- الصخب والعنف. لقد كتبته خمس مرات، محاولاً أن أحكي القصة، لكي أخلص نفسي من الحلم الذي كان مستمراً في تعذيبي حتى أنجزته. إنها مأساة امرأتين يائستين: كادي وابنتها. ديلسي هي واحدة من شخصياتي المفضلة، لأنها شجاعة، جسورة، كريمة، وديعة وصادقة. إنها أكثر شجاعة ونزاهة وكرماً مني بكثير.

• كيف بدأت "الصخب والعنف"؟

- بدأت بصورة ذهنية. لم أدرك حينها أنها كانت رمزية. كانت صورة لسروال داخلي لفتاة صغيرة ملطخ بالوحل في موضع المؤخرة بينما تعتلي شجرة إجاص، حيث بإمكانها أن ترى، من خلال شق صغير، المكان الذي تقام فيه جنازة جدتها، وتنقل ما يدور لإخوانها الذين يقفون على الأرض في الأسفل. فيما بعد، قمت بتوضيح هوياتهم وما الذي كانوا يفعلونه وكيف تلطخ سروالها الداخلي. أدركت أنه قد يكون مستحيلاً استيعاب كل تلك الأمور في قصة قصيرة، وأنها قد تكون كتاباً. ثم أدركت حينها رمزية الملابس الداخلية الملطخة، وأن تلك الصورة قد استبدلت بأخرى لفتاة يتيمة الأب والأم تتسلق أنبوب تصريف مياه المجاري لتهرب من المنزل الوحيد الذي كان متوفراً لها، حيث لم تحظ أبداً بالحب أو العاطفة أو التفهم.

حينها بدأت أروي القصة بعين الولد المعتوه، ذلك أني شعرت بأنه سيكون أكثر تأثيراً عندما تُروى من قبل شخص ما قادر فقط على معرفة ما حدث بدون أن يعرف سبب حدوثه. رأيت أني لم أكن قد رويت القصة حتى ذلك الوقت. حاولت سردها مرة أخرى، القصة نفسها بعيون أخ آخر. رغم ذلك، ظلت كما هي. رويتها للمرة الثالثة بعيون الأخ الثالث. ظلت كما هي أيضاً. حاولت أن أجمع أجزاءها بعضها إلى بعض وسدّ الفجوات بتنصيب نفسي ناطقاً باسمهم. لكنها ظلت غير مكتملة، إلى ما بعد خمسة عشرة سنة من نشر الكتاب، عندما كتبت ما يشبه ملحقاً لكتاب آخر، المحاولة الأخيرة لسرد القصة وإخراجها من رأسي. لذلك، أشعر ببعض الود على المستوى الشخصي ناحيتها. إنه الكتاب الذي أشعر بهشاشته البالغة. لم أتمكن من تركه وحيداً، ولم أتمكن أبداً من سرده بصورة أفضل، رغم أني حاولت ذلك بكل طاقتي، ومازلت أرغب بالمحاولة مرة أخرى، مع أنه من المحتمل أن أفشل من جديد.

• ما هو الإحساس الذي أثاره بينجي فيك؟

- الإحساس الوحيد الذي يمكن أن يتولد عندي فيما يتعلق بـ"بينجي" هو الحزن والشفقة لأجل البشر جميعاً. لا تستطيعين أن تشعري بأي شيء تجاه بينجي لأنه لا يشعر بشيء. الشيء الوحيد الذي يمكن أشعر به نحوه شخصياً يتعلق بما إذا كان قابلا للتصديق كما ابتكرته. لقد كان بمثابة البرولوج (ممثل يلقي الخطب الافتتاحية)، مثل حفار القبور في المسرحيات الإليزابيثية. يؤدي دوره ويذهب. بينجي عاجز عن إدراك الخير والشر لأنه لا يعرف شيئاً عن الخير والشر.

• هل يمكن أن يشعر بينجي بالحب؟

- لم يكن بينجي عاقلاً بما يكفي حتى ليكون أنانياً. كان حيواناً. أدرك الحنان والحب رغم أنه لم يتمكن من تسميتهما، والتهديد الذي تعرض له ذلك الحنان والحب هو الذي دفعه إلى الخوار عندما شعر بتغيّر كادي. لم يحتفظ بكادي لفترة طويلة؛ كونه معتوهاً، لم ينتبه حتى إلى أنه كان يفقد كادي. فقط عرف أن هناك خطأ ما، وذلك ما خلف الفراغ الذي وقع فيه حزيناً ومكتئباً. حاول ملء ذلك الفراغ. والشيء الوحيد الذي كان لديه هي فردة شبشب بالية تخص كادي. كان الشبشب بالنسبة له هو الحنان والحب، اللذان لم يستطع أن يجد لهما اسماً، لكنه عرف فقط أنهما كانا يضيعان منه. كان قذراً لأنه لم يستطع أن يكون نداً لأحد ولأن القذارة لم تكن تعني شيئاً بالنسبة له. لم تكن قدرته على التمييز بين القذارة والنظافة أكبر من قدرته على التمييز بين الخير والشر. لقد منحه الشبشب شعوراً بالارتياح رغم أنه لا يتذكر حتى الشخص الذي كان يملكه، وأكثر من ذلك لا يتذكر سبب حزنه وكآبته. لو ظهرت كادي مرة أخرى ربما لن يتمكن من التعرف عليها.

• هل النرجسية الممنوحة لبينجي ذات دلالة ما؟

- النرجسية منحت لبينجي لكي تدمر انتباهه. لقد كانت ببساطة كالزهرة التي حدث أن كانت في المتناول في ذلك الخامس من أبريل. لم تكن مدروسة.

• هل هناك أي جدوى فنية من صب الرواية في قالب استعارة، كالاستعارة المسيحية التي استخدمتها في "خرافة"؟

- هي نفس الجدوى التي يجدها النجار في بناء زوايا مربعة لكي يبني بيتاً مربعاً. في "خرافة"، كانت الاستعارة المسيحية هي الاستعارة المناسبة لاستخدامها في تلك القصة المميزة، كما في شكل مستطيل، الزاوية المربعة هي الزاوية المناسبة لبناء منزل مستطيل قائم الأركان.

• هل يعني ذلك أن الفنان يستطيع أن يستخدم المسيحية ببساطة، تماماً كأي أداة أخرى، كما يستعير النجار مطرقة؟

- النجار الذي نتكلم عنه لا يفتقر لتلك المطرقة أبداً. ليس هناك من هو بمنأى عن المسيحية، إذا كنا نتفق على ما تعنيه الكلمة. إنها كل رمز شخصي لسلوك الفرد، عبر الوسائل التي تساعده في أن يجعل من نفسه إنساناً أفضل مما تريده طبيعته أن يكون، فيما لو اتبع طبيعته فقط. مهما كان رمزها- الصليب أو الهلال أو أياً كان- ذلك الرمز هو ما يذكّر المرء بواجبه في إطار الجنس البشري. رموزها المتعددة هي الرسوم البيانية المضادة التي يقيس بها نفسه ويتعلم ليعرف ما هو عليه. ليس بمقدورها أن تعلّم المرء ليكون صالحاً مثلما يعلمه الكتاب المدرسي علم الرياضيات. وهي تريه كيف يكتشف نفسه، ويطور لنفسه رمزاً أخلاقياً ونموذجاً في حدود قدراته وطموحه، عن طريق إعطائه أمثلة منقطعة النظير من المعاناة والتضحية والوعد بالأمل. الكتّاب يرسمون، وسوف يرسمون دائماً، على الاستعارات الخاصة بالوعي الأخلاقي، لأن الاستعارات منقطعة النظير- الرجال الثلاثة في "موبي ديك"، الذين يمثلون ثالوث الضمير: لا يعرفون شيئاً، يعرفون لكنهم لا يهتمون، يعرفون ويهتمون. الثالوث نفسه في "خرافة" ممثلاً بضابط الطيران اليهودي، الذي قال: "هذا مرعب. أرفضه لكي أقبله، حتى لو كان عليّ رفض الحياة لفعلت نفس الشيء"؛ ضابط المناورة الفرنسي، الذي قال: "هذا مرعب، لكننا نستطيع أن نبكي ونتحمله"؛ وساعي الكتيبة الإنجليزي، الذي قال: "هذا مرعب، سوف أفعل شيئاً حياله."

• هل الفكرتان غير المترابطتان في "النخيل البري" جُمعتا معاً في كتاب واحد لأية غاية رمزية؟ هل هما، كما ألمح بعض النقاد، نوع من الطّباق الجمالي، أم أن ذلك مجرد مصادفة؟

- لا لا. كانت تلك قصة واحدة- قصة تشارلوت ريتنماير وهاري ويلبورن، اللذان ضحيا بكل شيء من أجل الحب ثم فقداه بعد ذلك. لم أعرف أنها كانت ستصير قصتين منفصلتين إلا بعد أن بدأت العمل في الكتاب. عندما وصلت نهاية ما بات الآن القسم الأول من "النخيل البري"، أدركت فجأة أن شيئاً ما كان مفقوداً، كانت تحتاج لتوكيد، شيء ما ليرفعها كالطباق في الموسيقى (مزج الألحان). لذا اشتغلت على قصة "الرجل العجوز" إلى أن عادت قصة "النخيل البري" من جديد إلى الذروة. عندئذ أوقفت قصة "الرجل العجوز" عند النقطة التي هي الآن قسمها الأول، والتقطت قصة "النخيل البري" حتى بدأت بالانحناء مرة أخرى. ثم رفعتها مجدداً بقسم آخر من نقيضتها، وهي قصة رجل يعثر على حبه ثم يستغرق ما تبقى من الكتاب في الهروب من ذلك الحب، حتى إلى درجة العودة الطوعية إلى السجن حيث يمكن أن يكون بأمان. إنهما قصتان بالصدفة فقط، وربما بالضرورة. القصة هي تلك المتعلقة بشارلوت وويلبورن.

• كم من كتاباتك تعتمد على التجربة الشخصية؟

- لا أستطيع أن أحدد ذلك. لم أقم بأي إحصاء على الإطلاق. لأن "كم" ليست مهمة. الكاتب يحتاج ثلاثة أشياء: التجربة، الملاحظة والخيال- أي اثنين منها، وأحيانا أي واحد منها- يمكن أن يسد نقص الآخر. بالنسبة لي، تبدأ القصة عادة بفكرة وحيدة أو ذكرى أو صورة ذهنية. كتابة القصة هي ببساطة مسألة تأسيس لتلك اللحظة، تفسير سبب حدوثها أو ما الذي يدعو لاستمرارها. الكاتب يحاول أن يخلق أشخاصاً يمكن التصديق بهم في ظروف متحركة وقابلة للتصديق وبأفضل الطرق المتحركة التي يستطيع فعلها. بالتأكيد يجب عليه أن يستخدم، كإحدى أدواته، البيئة التي يعرفها. قد أقول إن الموسيقى هي أسهل الوسائل التي يتم التعبير بواسطتها، لأنها تدخل أولاً في خبرة المرء وتاريخه. لكن بما أن الكلمات هي موهبتي، فيجب أن أحاول التعبير بالكلمات بصورة مشوشة عما يمكن أن تفعله الموسيقى النقية بشكل أفضل. أي أن الموسيقى بإمكانها أن تعبر بصورة أفضل وأبسط، غير أني أفضّل استخدام الكلمات، كما أفضّل القراءة عوضاً عن الاستماع. أفضّل الصمت على الصوت، والصورة المؤلفة بالكلمات تظهر في الصمت. أي أن ضجيج وموسيقى النثر تحدثان في الصمت.

• بعض الناس يقولون إنهم لا يستطيعون فهم كتابتك، حتى بعد أن يقرؤوها مرتين أو ثلاث مرات. ما الطريقة التي تقترحها لهم؟

- أن يقرؤوها أربع مرات.

• أشرت إلى التجربة، الملاحظة والخيال كأمور مهمة للكاتب. هل ترغب بإضافة الإلهام؟

- لا أعرف أي شيء عن الإلهام لأني لا أعرف ما هو- سمعت عنه لكني لم أره على الإطلاق.

• يقال بأنك مهووس بالعنف ككاتب.

- ذلك يشبه القول بأن النجار مهووس بمطرقته. العنف ببساطة هو إحدى أدوات النجار. الكاتب لا يستطيع أن يبني شيئاً بأداة واحدة أكثر مما يستطيع النجار.

• هل يمكنك الحديث عن بدايتك ككاتب؟

- كنت أعيش في نيو أورليانز، وأقوم بأي نوع كان من العمل اللازم لكسب القليل من المال بين حين وآخر. التقيت شيروود أندرسون. كنا نمشي حول المدينة في فترة ما بعد الظهر ونتحدث إلى الناس. في المساء كنا نلتقي مرة أخرى ونجهز على قنينة أو اثنتين بينما هو يتحدث وأنا أنصت. في فترة ما قبل الظهر لم أكن أراه أبداً. كان يعمل منعزلاً. في اليوم التالي كنا نعيد الكرة. أيقنت أنه إذا كانت تلك هي حياة الكاتب، فإن مسألة أن أصبح كاتباً مناسبة لي. لذلك بدأت بكتابة كتابي الأول. في البداية وجدت أن الكتابة كانت تسلية. لقد نسيت حتى أني لم أكن قد رأيت السيد أندرسون منذ ثلاثة أسابيع حتى جاء هو واجتاز بابي، كانت المرة الأولى التي يأتي فيها ليراني، وقال: "ما الأمر؟ هل أنت غاضب مني؟" أخبرته بأني كنت أكتب كتاباً، فقال "يا إلهي"، وخرج. عندما انتهيت من الكتاب- كان "راتب جندي"- التقيت بالسيدة أندرسون في الشارع. سألتني كيف يسير العمل معي في الكتاب، فقلت إني انتهيت منه. قالت: "يقول شيروود إنه سيعقد معك صفقة. إذا لم يكن مضطراً لقراءة مخطوطك، فسوف يتحدث إلى ناشره ليوافق عليه". فقلت: "لقد نجح الأمر"، وهكذا أصبحت كاتباً.

• ما هي الأعمال التي كنت تقوم بها لكي تكسب تلك "النقود القليلة بين حين وآخر"؟

- أي عمل كان يتوفر لي. كان بإمكاني القيام بالقليل من كل شيء تقريباً- قيادة الزوارق، طلاء المنازل، التحليق بالطائرات. لم أكن بحاجة لنقود كثيرة أبداً، لأن المعيشة في نيو أورليانز كانت رخيصة حينها، وكل ما كنت أريده، مكاناً أنام فيه، القليل من الطعام، التبغ والويسكي. كانت هناك عدة أمور أستطيع القيام بها ليومين أو ثلاث وأجني ما يكفي من النقود لكي أعتاش عليها لما تبقى من الشهر. أنا بطبعي متشرد وصعلوك. لا أريد النقود بإلحاح كافٍ لكي أجهد في طلبها. برأيي أنه من المخجل أن يوجد الكثير من العمل في العالم. أحد أكثر الأمور المحزنة هو ذلك الشيء الوحيد الذي يستطيع المرء فعله لمدة ثماني ساعات في اليوم، يوماً بعد آخر، العمل. لا تستطيع أن تأكل طوال ثماني ساعات يومياً ولا أن تشرب طوال ثماني ساعات يومياً ولا أن تمارس الجنس طوال ثماني ساعات يومياً- كل ما تستطيع فعله طوال ثماني ساعات يومياً هو العمل. ذلك هو السبب الذي يفسر لماذا يجعل المرء نفسه وكل شخص آخر، بائساً وتعيساً للغاية.

• لا بد أنك تشعر بأنك مدين لشيروود أندرسون، لكن كيف تنظر إليه ككاتب؟

- لقد كان الأب الروحي لجيلي من الكتاب الأمريكيين ولتقاليد الكتابة الأمريكية التي سوف يحملها من سيخلفنا. لم يتلق التقدير اللائق به. دريزر هو أخوه الأكبر ومارك توين أبوهما الاثنين.

• ماذا عن الكتاب الأوروبيين في تلك الفترة؟

- أعظم رجلين في زمني كانا "مان" و"جويس". عليك أن تقاربي "أوليسيس" جويس كما يقارب الواعظ المعمداني الأمي العهد القديم: مع الإيمان.

• كيف حصلت على خلفيتك في الإنجيل؟

- جدي الأكبر (موري) كان حنوناً ولطيفاً معنا نحن الاطفال على أية حال. أي أنه رغم كونه اسكتلندياً، فقد كان (بالنسبة لنا) لا هو بالمتدين بشكل استثنائي ولا بالمتشدد: كان ببساطة رجل ذي مبادئ متصلبة. أحد تلك المبادئ أن كل واحد، ابتداءً بالأطفال وانتهاءً بكل الكبار الموجودين، كان عليه أن يكون لديه سفر من الإنجيل جاهزاً وطليقاً في طرف لسانه عندما نجتمع على الطاولة لتناول الإفطار كل صباح؛ إذا لم يكن لديك سفرك المقدس جاهزاً، فلن تحصل على أي إفطار؛ سوف يعطونك إذناً بالانصراف لمدة كافية لكي تغادر الغرفة وتنكبّ على حفظ سِفر ما. (كان هناك عمة عزباء، من طراز ضباط النظام للقيام بهذا الواجب، والتي كانت تُعزل مع المذنب وتعطيه نفحة منعشة بحيث تبقيه مستعداً في المرة القادمة).

كان عليّ أن أكون أصيلاً، سِفراً صحيحاً. بينما كنا صغاراً، كان بالإمكان أن يحدث مثل هذا ما إن تتمكن من إتقانه، صباحاً بعد صباح، إلى أن تصبح أكبر عمراً وأضخم جسماً بعض الشيء، عندئذ قد تتفاجأ ذات صباح (عند هذا التوقيت، ربما تكون قد أصبحت طليق اللسان بسِفرك إلى حد ما، منطلقاً بدون حتى أن تستمع لنفسك بما إنك منذ خمس أو عشر دقائق مضت، محاطاً بلحم الخنزير وشرائح لحم البقر والدجاج المحمر وجريش القمح والبطاطا الحلوة ونوعين أو ثلاثة من الخبز الساخن) قد تتفاجأ بعينيه مركزتان عليك- زرقاوان للغاية، وفي غاية الحنان واللطف، وحتى الآن لا يبدو متشدداً بقدر ما هو متصلب- وفي الصباح التالي سيكون لديك سِفراً جديداً. على أية حال، كان ذلك يحدث عندما تكتشف أن طفولتك قد انتهت؛ أنك قد تخلصت منها ودخلت العالم.

• هل تقرأ لمعاصريك؟

- لا، الكتب التي أقرؤها هي التي عرفتها وأحببتها عندما كنت شاباً، وهي التي أعود إليها كما تفعلين مع الأصدقاء القدامى: العهد القديم، ديكنز، كونراد، سرفانتس، دونكيشوت- أقرأ ذلك كل عام، كما يفعل البعض مع الإنجيل. فلوبير، بلزاك- لقد خلق عالماً متكاملاً خاصاً به، تيار من الدم يتدفق من خلال عشرين كتاباً- دوستويفسكي، تولستوي، شكسبير. أقرأ ملفيل بين حين وآخر، ومن الشعراء، مارلو، كامبيون، جونسون، هيريك، دون، كيتس وشيللي. مازلت أقرأ "هوسمان". قرأت هذه الكتب غالباً لدرجة أني دائماً لا أبدأ بالصفحة الأولى حتى أقرؤها للنهاية. أقرأ مشهداً واحداً، أو عن شخصية واحدة، تماماً كما لو كنت ستقابلين صديقاً وتتحدثين إليه لدقائق قليلة.

• وماذا عن فرويد؟

- كل الناس كانوا يتحدثون عن فرويد عندما كنت أعيش في نيو أورليانز، لكني لم أقرأه. وكذلك الأمر بالنسبة لشكسبير. أشك في أن ملفيل قد فعل ذلك أيضاً، وأنا متأكد من أن موبي ديك لم يفعل.

• هل تقرأ القصص البوليسية؟

- أقرأ لسيمنون لأنه يذكّرني بشيء ما عن تشيخوف.

• وماذا عن شخصياتك المفضلة؟

- شخصياتي المفضلة هي: سارا غامب- امرأة قاسية وعديمة الرحمة، سكّيرة، انتهازية، غير جديرة بالثقة، معظم صفاتها سيئة، لكنها على الأقل كانت شخصية مميزة؛ السيدة هاريس، فالستاف، الأمير هال، دون كيشوت، وبالطبع سانكو. السيدة ماكبث تعجبني دائماً. و "بوتوم"، أوفيليا، وميركوتيو- هو والسيدة غامب كلاهما واجها صعوبة الحياة، لم يطلبا أية مساعدة، ولا ارتفع أنينهم. هوك فين بالطبع، وجيم. توم سوير لم يعجبني كثيراً- منافق فضيع. وكذلك يعجبني سوت لافينجود من كتاب لجورج هاريس كتبه حوالي عام 1840 أو 1850 في جبال تينيسي. لم يكن لديه أوهاماً عن نفسه، فعل أفضل ما بوسعه أن يفعل؛ وفي أوقات معينة كان جباناً وعرف بأنه كان كذلك ولم يخجل؛ لم يلق اللوم على أحد بسبب حظه العاثر ولم يسب الله لأجل ذلك على الإطلاق.

• هل يمكنك التعليق على مستقبل الرواية؟

- أتصور أنه ما دام الناس مستمرون في قراءة الرواية، فسوف يستمرون في كتابتها، والعكس بالعكس؛ ما لم تُصب المجلات المصورة والمسلسلات الهزلية قدرة الناس على القراءة بالضمور، وفي الواقع، فالأدب هو في طريق العودة إلى كتابة الصورة في كهف النياندرتال.

• وماذا عن دور النقاد؟

- الفنان ليس لديه الوقت لسماع النقاد. من يريدون أن يكونوا كتاباً يقرؤون المراجعات النقدية، أما من يريدون أن يكتبوا فليس لديهم الوقت لذلك. الناقد بدوره يحاول أن يقول: "Kilroy was here".[2] دوره ليس موجهاً نحو الفنان نفسه. الفنان أعلى مستوى من الناقد، لأن الفنان يكتب ما يثير الناقد. أما الناقد فيكتب ما يثير الجميع ما عدا الفنان.

• إذا فأنت لا تشعر أبداً أنك بحاجة لمناقشة عملك مع أي كان؟

- كلا، أنا مشغول جداً بكتابته. يجب أن يرضيني، وإذا حدث ذلك، فلست بحاجة للتحدث بشأنه. إذا لم ينل رضاي، فإن الحديث عنه لن يطوره، لأن الطريقة الوحيدة لتطويره هي العمل عليه أكثر. لست من رجال الأدب بل كاتباً وحسب. لا أحصل على أي رضى من متجر الكلام.

• يزعم النقاد أن روابط الدم مركزية في رواياتك.

- هذا رأي، وكما قلت للتو، أنا لا اقرأ النقد. أشك في أن رجلاً ما يحاول أن يكتب عن الناس سيكون مهتماً بروابط الدم أكثر من اهتمامه بأشكال أنوفهم، ما لم يكونوا ضروريين لمساعدة القصة في المضي قدماً. لو أن الكاتب يركز على ما يحتاجه ليهتم به، أي الحقيقة وقلب الإنسان، فلن يبقى لديه الكثير من الوقت لأي أمر آخر، كالأفكار والوقائع من قبيل أشكل الأنوف أو روابط الدم، ذلك أن الأفكار والوقائع برأيي، قليلة الارتباط جداً بالحقيقة.

• النقاد أيضاً يشيرون إلى أن شخصياتك لا تختار عن وعي بين الخير والشر على الإطلاق.

- الحياة غير مهتمة بالخير والشر. دون كيشوت كان يختار بين الخير والشر باستمرار، لكن بعد ذلك، كان يختار في حالة الحلم. كان مجنوناً. لقد انضم إلى الواقع فقط عندما كان منشغلاً بمحاولة التصرف بندية مع الآخرين لدرجة أنه لم يعد لديه الوقت للتمييز بين الخير والشر. منذ أن وجد الناس في الحياة، توجب عليهم ببساطة أن يكرسوا وقتهم للبقاء أحياء. الحياة حركة، والحركة معنية بما يجعل الإنسان يتحرك- أي الطموح، القوة، الرضى. متى ما استطاع الإنسان أن يكرس نفسه للفضيلة، فلا بد أن يحصل على ذلك بالقوة من الحركة التي هو جزء منها. إنه مجبر على المفاضلة بين الخير والشر عاجلاً أو آجلاً، لأن الضمير الأخلاقي يتطلب منه ذلك لكي يستطيع أن ينجو بنفسه إلى الغد. ضميره الأخلاقي هو الشقاء الذي توجب عليه قبوله من الآلهة لكي يحصل منها على الحق بالحلم.

• هل يمكن أن توضح أكثر ما الذي تقصده بالحركة في ما يتعلق بالفنان؟

- غاية كل فنان هي أن يوقف الحركة، أي الحياة، بوسائل مصطنعة وإبقائها مثبتة على ذلك النحو لمئة سنة قادمة. عندما ينظر إليها الغرّ، تتحرك من جديد بما أنها الحياة. ونظراً لكون الإنسان فاني، فإن الخلود الوحيد المتاح له هو أن يترك شيئاً ما خالداً وراءه كونه سيظل في حالة حركة دائماً. هذه هي طريقة الفنان لخربشة "Kilroy was here" (كيلروي كان هنا) على جدار النهاية والنسيان الحتمي الذي لا بد أن يعبر من خلاله يوماً ما.

• قال مالكولم كاولي أن شخصياتك تعزز إحساساً بالخضوع لقدرها.

- هذا رأيه. أستطيع القول إن بعضهم يفعل ذلك وبعضهم لا، مثل كل شخصيات الآخرين. ويمكن أن أقول بأن لينا جروف في "ضوء في آب" تواجه قدرها كما ينبغي إلى حدّ بعيد. لم تكترث حقيقةً في ما يخص قدرها إذا ما كان رجلها هو لوكاش بيرش أم لا. كان نصيبها أن تحصل على زوج وأطفال وقد عرفت ذلك، وهكذا خرجت ولازمت قدرها بدون أن تطلب المساعدة من أحد. كانت قائدة روحها. أحد أكثر الأحاديث رصانة ورجاحة التي سمعتها على الإطلاق عندما قالت لـ"بيرون بانش" لدى صدّها الفوري لآخر محاولاته المستميتة واليائسة لاغتصابها: "ألا تخجل من نفسك؟ ربما تكون قد أيقظت الطفل". لم تكن أبداً مشوشة، مرتعبة أو مذعورة ولو للحظة واحدة. لم تعرف حتى أنها ليست بحاجة للشفقة. كلامها الأخير على سبيل المثال: "ها أنا ولم أسافر سوى لشهر واحد، موجودة بالفعل في تينيسي. جسدي صار هنا وهناك".

عائلة باندرين في "بينما أرقد محتضرة" واجهوا أقدارهم كما ينبغي أيضاً إلى حدّ كبير. الأب الذي فقد زوجته قد يحتاج بصورة طبيعية لزوجة أخرى، ولذلك حصل على زوجة. وبضربة واحدة، لم يستبدل طباخ العائلة وحسب، بل اقتنى جراموفون ليمنحهم المتعة الكاملة أثناء استراحتهم. الابنة الحامل أخفقت هذه المرة في أن تدمر وضعها الاجتماعي، لكنها لم تكن محبطة. كانت عازمة على المحاولة مرة أخرى، وحتى في حال أخفقوا جميعاً في البقاء متزمتين حتى النهاية، فإن ذلك لم يعني شيئاً سوى مجرد طفل آخر.

• والسيد كاولي يقول إنك واجهت صعوبة في ابتكار شخصيات متجانسة بين عمر العشرين والأربعين.

- الناس بين العشرين والأربعين ليسو متجانسين. الغرّ لديه القدرة على الفعل لكنه لا يستطيع أن يعرف. هو يعرف فقط عندما لا يعود قادراً على الاستمرار في الفعل- بعد الأربعين. بين العشرين والأربعين تصبح إرادة الفعل لدى الغِرّ أقوى، أكثر خطورة، لكنه لم يبدأ التعلم بعد ليعرفها. وبما أن قدرته على الفعل موجهة إجبارياً نحو مسارات الشرّ من قبل المحيط وجماعات الضغط، يكون الإنسان قوياً قبل أن يكون أخلاقياً. آلام العالم سببها أشخاص بين العشرين والأربعين. الناس المحيطين بمنزلي والذين سببوا التوتر العرقي- أنصار ميلام وبراينت (في جريمة قتل إيميت تيل)[[3]] وعصابات الزنوج الذين يخطفون امرأة بيضاء ويغتصبونها بدافع الانتقام، أنصار هتلر، أنصار نابوليون، أنصار لينين- كل هؤلاء الناس هم رموز لمعاناة الإنسان وعذابه، جميعهم بين العشرين والأربعين.

• أدليت بتصريح للصحافة في الوقت الذي حدث فيه قتل إيميت تيل، هل لديك ما تضيفه هنا؟

- لا، فقط أعيد ما قلته من قبل: أنه إذا كنا نحن الأمريكيين ستكتب لنا النجاة فذلك سيكون بالضرورة لأننا اخترنا وانتخبنا ودافعنا لكي نكون أمريكيين في المقام الأول؛ لكي نظهر للعالم كجبهة متجانسة ومتماسكة، سواء كنا أمريكيين بيض أو سود أو أرجوانيين أو زرقاً أو خضراً. قد تكون الغاية من هذا الخطأ المؤسف والمأساوي الذي ارتكب في موطني المسيسيبي من قبل رجلين من البيض ضد طفل زنجي بائس، هي اختبار لنا ما إذا كنا نستحق البقاء على قيد الحياة. لأنه إذا كنا في أمريكا قد وصلنا إلى تلك الدرجة من ثقافتنا المتهورة حين نشعر بضرورة قتل طفل، بغض النظر عن السبب أو اللون، فإننا لا نستحق البقاء على قيد الحياة، وعلى الأرجح أننا لن نبقى.

• ماذا حدث لك بين "راتب جندي" و "سارتوريس"- أقصد ما الذي دفعك للبدء في ملحمة "يوكناباتاوفا"؟

- مع "راتب جندي" اكتشفت أن الكتابة كانت تسلية. لكني اكتشفت فيما بعد أنه ليس فقط كل كتاب يتطلب تصميماً معيناً، بل أن مجمل نتاج أو مجموع عمل الفنان يتطلب تصميماً معيناً. مع "راتب جندي" و "البعوض" كتبت لغرض الكتابة لأنها كانت تسلية. ومع بداية "سارتوريس" اكتشفت أن ختم طابعي البريدي الصغير الخاص بأرض الوطن، كان يستحق الكتابة عنه وأني لن أعيش طويلاً بما يكفي لأستنفد كل ذلك، وأنه بتصعيد الحقيقي إلى الخيالي قد أحصل على الحرية الكاملة لاستخدام أي موهبة لديّ والوصول بها إلى ذروتها المطلقة. ذلك فتح أمامي منجم ذهب على الآخرين، وهكذا خلقت كوناً خاصاً بي. بإمكاني تحريك هؤلاء الناس من مكان إلى آخر مثل إله، ليس فقط داخل المكان بل داخل الزمن أيضاً. كوني نجحت في تحريك شخصياتي من مكان لآخر، على الأقل في تقديري، يثبت لي يثبت لي نظريتي الخاصة عن كون الزمن في حالة غير ثابتة، حيث لا وجود له سوى في التجسدات المؤقتة للآلهة على الذات الفردية لعامة الناس. لا يوجد شيء كهذا باعتباره ماضياً- فقط حاضر. لو أن للماضي وجود، لن يكون هناك حزن وأسى. يروقني التفكير بالعالم الذي خلقته باعتبار كينونته نوع من حجر الزاوية في الكون؛ ذلك أنه صغير بحجم حجر الزاوية، فإذا ما تم نزعه فقد ينهار الكون ذاته. كتابي الأخير سيكون كتاب يوم القيامة، الكتاب الذهبي، عن بلاد "يوكناباتاوفا". حينها سأكسر قلم الرصاص وسيكون عليّ أن أتوقف.


[[1]] الكاجون جماعة من المهاجرين الفرنسيين جرى توطينهم في لويزيانا في القرن التاسع عشر ويعرفون أيضاً بـ"الأكاديين".

[[2]] الترجمة الحرفية للجملة: "كيلروي كان هنا"، وأقرب مقابل لها في الثقافة اليمنية وربما في الثقافة العربية عموماً: "ذكريات فلان..."، التي يكتبها الفتيان على الجدران وكراسي الحافلات. العبارة صارت نكتة في الثقافة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، وتم تطوير شخصية كيلروي في فن الجرافيتي برأس أصلع وأنف طويل فيما تظهره أطراف أصابعه في وضعية تلصص.

[[3]] جريمة قتل وحشية لفتى أسود بعمر الـ14 ارتكبها زوج امرأة بيضاء وأخيه غير الشقيق، بعد أن اتهمت الفتى الأسود بأنه غازلها داخل بقالة زوجها، حيث تعمل فيها محاسبة. وهي الجريمة التي أشعلت حملات المطالبة بالحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة الأمريكية.

 قصة الترجمة:

كانت فترة عصيبة. الحرب في عامها الثاني وتنذر بالمزيد، وأنا أحاول الاستمرار بكتابة القصص القصيرة بعد صدور مجموعة "الرجاء عدم القصف" في مارس/ آذار 2016. مرضت زوجتي، وكان وقت المراجعة الطبية في العيادة يبدأ الخامسة عصراً إلى الحادية عشرة قبل منتصف الليل. كنت أفرغ إلحاح الكتابة في تدوين بعض اليوميات القصيرة، بينما أراقب حالة رفيقة منذ العودة إلى البيت حتى الصباح. نعود من العيادة بحسب الحظ وسط زحام المرضى، نتفقد الأولاد ونسمح لهم بالجلوس معنا قليلاً ليطمئنوا على أمهم، وبعد أن يناموا ننتقل إلى غرفة المجلس، حيث الشرفة التي ترتاح للنوم أمام بابها. أفتح باب الشرفة وأجلس مقابلها. أتصفح الإنترنت وأكتب بجهاز الهاتف لأنه لا يوجد كهرباء لتشغيل الكمبيوتر المحمول، ولأن من يريد أن يفعل شيئاً لا يعدم الحيلة.

 في إحدى الليالي عثرت على حوار وليام فوكنر لمجلة باريس ريفيو، وكنت قبل مرض زوجتي أحاول تنشيط مهاراتي الخاملة في اللغة الإنجليزية، بترجمة حوارات أدبية أو "الروتين اليومي" لبعض الكتاب المعروفين عالمياً. في الحقيقية، كان قطب التنشيط الآخر هو الصديق ريان الشيباني؛ الشاعر والفنان التشكيلي والصحفي، ومؤخراً الروائي. كنا نترجم أحاديث الكتّاب عن برامجهم اليومية من إحدى المدونات على الإنترنت لفتت انتباهنا إليها الزميلة هدى جعفر، بترجمة روتين يومي لكاتب لم أعد أتذكر اسمه، ونشرناها في الصفحة الثقافية لصحيفة "الأولى"، التي كنا نعمل فيها. كان ذلك قبل الحرب، وكان ريان أنشأ صفحة في "فيسبوك" باسم "مواعيد أخيرة" خصصها لبوحه الخاص الذي لا تحتمله الصفحة الشخصية، بما في ذلك اقتباسات وعبارات ذات طابع أدبي وتأملي في الحياة، مع قدر لا بأس به من المرح المتاح في بلد كان يتم تهيئته لحرب طويلة. عندما أخبرني عن هذا الملاذ المنعزل، كنت أتصفحها وأجد في تلك الاقتباسات ما يشبه البلسم الذي يخفف لذعات الشمس وقت الظهيرة. حين تعيش وسط الظلال القاتمة للحرب، تشعر بهجير دائم يشوي الروح ويتآكل البدن. اقترحت على صديقي تحويل الملاذ المعزول، كحال بلدنا منذ الأزل، إلى صفحة عامة، اتفقنا على جعلها صفحة عامة وتخصيص بعض الوقت والجهد لكتابة وترجمة مواد حصرية الصفحة.

لا أعرف كيف استطعت ترجمة هذا الحوار الطويل من لغة فوكنر الصعبة في ظروف مرض وحرب! ربما دفعتني غريزة البقاء للحفاظ على عافية الروح قبل البدن، ثم علمتني السنوات التي ازدادت قسوة لاحقاً، أن هذا الاختلال في توازن سنة الحياة بين الروح والجسد، لا يجب أن يستمر.

مرت السنوات التالية ولم أتمكن من إنجاز شيء مماثل، لأن الحفاظ على العائلة كسياق اجتماعي، غير قابل للتنصل، خاصة في ظرف حرب. نشرت ترجمة الحوار في صفحة "مواعيد أخيرة" على "فيسبوك"، بدون مراجعة نهائية، وانصرفت لشؤون الحياة اليومية.

 في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، أنهيت مجموعة قصصية جديدة كانت نتاج جلسات كتابة متقطعة خلال السنوات السابقة، فالكتابة الإبداعية لا تزال بالنسبة لي الملاذ الآمن والمؤتمن على سلامة الضمير في الأوقات العصيبة.

 كل سنة أتفقد هذه المقابلة بحميمية، كما لو أني ترجمت كل أعمال هذا الكاتب المحيّر والمتعب في لغته الروائية وفي حديثه العادي على حد سواء. تماماً كما كان يفعل بإعادة قراءة الكتب المفضلة لديه، كما قال في الحوار. في قراءتي للحوار سنة 2022، وفي ظرف مرضي أنا هذه المرة، أجريت مراجعة للترجمة وقررت نشرها، لكن المرض لم يسعفني في إكمال المراجعة، واليوم 28 مارس/ آذار 2024، فتحت المستند كعادتي السنوية ولاحظت أن عمر هذا الحوار يقترب من السبعين سنة، بينما ما زلنا نعيش حروباً لا تختلف كثيراً عن الحربين العالميتين اللتين عاصرهما فوكنر، سوى اختلاف مفهوم الحرب وتقنياتها وتردد أربابها في استخدام الأسلحة النووية فائقة التطور.