الثلاثاء، 8 فبراير 2011

الحنين إلى غرفة المذاكرة

لطف الصراري


عدت إلى بيت الأنقاض بعد أن كنت قد انقطعت عنه أسبوعا كاملاً. لم أتوقع أن المصطبة الصغيرة، التي بنيتها من كتل الأسمنت والخشب في الأيام التي أعقبت تهدم البيت، يمكن أن تستهوي أحداً للنوم عليها، وقد خاب توقعي مرة أخرى حين اكتشفت أن النائم هنا هو أبي؛ كان قد أفاق على وقع خطواتي ونهض إلى وضعية الجلوس، بينما قدماه يلهوان بكتلتي أسمنت صغيرتين وتصدران صوتاً مقلقاً.
    كانت تلك المصطبة مأواي الوحيد عندما يقرر شعور ما في أعماقي أني قد أثقلت على صديق، وقبل أن أصل إليها تماماً، سألني: "فينك من أسبوع ماشفناكش؟ تبيت هنا والاّ عند أصحابك"؟ لم أجد ما أقوله غير: "لا". "كيف لا؟ طيب فين ترقد"؟ صمتُّ للحظة، وشعرت بإنهاك اختلط بالتقزز من قرقعة كتلتي الأسمنت على صفيح الزنك عند قدميه. وبدون لياقة أجبته: "في الساحل".

    انتفض من على المصطبة مستفسراً، بنبرة سوقية، عمّا أخبرته به، كان يستفسر ويعيد الاستفسار بكلمة واحدة مكررة: "إيش..."، لو لم تكن الإضاءة خافتة، لرأيت فرقاً في ملامح الغضب على وجهه. اختلاف صوته ذكّرني بصوت الذعر الذي سمعته حين كان يستغيث طلباً للمساعدة في إسعاف لمياء، كان ذلك اليوم الذي تعرض فيه بيتنا للقذيفتين، تذكرت صوته المذعور لأني لم أسمع صوته مختلفاً سوى ذلك اليوم والآن، فيما يستمر بترديد كلمته ذات النبرة السوقية، ثم أمطرني بمواعظ أكثر سوقية، نادراً ما كان يتفوه بها أمام أمي ولمياء، عن فساد الشبان الذين يقضون الليل في الساحل: "سكّروك، مخنثوك، رحتم بعد العيال والقحاب"؟ كان يمسك نفسه عن صفع وجهي في آخر لحظة ومن ثم يمسك بذقني ويقول: "الله المستعان يا طارق.. الله المستعان.. هذي آخر تربيتي؟ تروح تتصعلك في الساحل"! كنت أسمع كلماته وأشعر بالخوف لعدم وجود أمي، كنت أتذكرها حين تحضر في لحظات غضب أقل حدة من هذه وتنهره فيتوقف عن تعنيفي. لكنه عندما بدأ يخفف لهجته، ويقول لي "الله المستعان"، عرفت أن أمي قد حضرت ولكن في رأسه. حاولت إخباره أني كنت أذهب إلى الساحل للنوم وليس للصعلكة، أدرت أن أقول له أني استثقلت نفسي عند أصدقائي مؤخرا، ولم أستطع تحمل الخوف من النوم على هذه المصطبة المكشوفة وحيداً كل ليلة، أردت أن أخبره أني لجأت إلى زاوية صخرية في "ساحل العشاق" حيث لا يرتاده أحد في الليل. لكن ويلي إن كنت أخبرته في أي ساحل كنت، فهو يعرف بالتأكيد عن المغامرات التي تحدث هناك ليلاً.
بدلاً عن ذلك، حاولت إخراجه عن الموضوع نهائياً، وجثوت عند مستوى ركبتيه وقبلتهما بكثافة: "أشتي أطلب منك طلب يابَهْ.. أرجوك توافق". لم أتح لقدميه مساحة كي يركلني، وزدت تشبثاً بساقيه عندما حركهما لهذا الغرض وأمطرت ركبتيه بالقبل. كان قدماه يتعثران بكتلتي الأسمنت وهو يصرخ محاولا الحفاظ على توازنه: "فك لي يا حمار.. روح عند اصحابك المخانيث.. فك". كرر: "فك يا حمار" أكثر من خمس مرات وما زلت محتضنا ساقيه بقوة وأتوسله مع المزيد من القبل على ركبتيه، إلى أن ارتمى إلى الخلف بالجزء الأعلى من مؤخرته على المصطبة الأسمنتية وصرخ، ولكن هذه المرة بألم: " فك يابن الكلب... كسرت ظهري". كتمت ضحكتي وافتعلت الاعتذار بكلمات ظل يرفضها إلى أن مددته على المصطبة، ثم سألني عن طلبي. أخبرته أني أريد مواصلة دراستي في تعز وأن صلاح قد وعد أن يعطيني الكشك الذي يملكه هناك وسوف أتدبر مصاريفي منه. كاد أن يغضب مرة أخرى، لكني أخمدت هذا الغضب عندما قلت له أن أمي هي التي اقترحت ذلك. هدأ بطريقة سحرية، وتأكدت حينها أن أمي حاضرة بالفعل. صار بإمكاني الآن أن أسأله عن "لمياء". قعّر ظهره وتأوه: "أختك تعبانة يابني، مدري تعيش والا تموت". كان يتحدث وعيناه مغمضتان بالنسبة لي لأني واقفاً وهو مستلق، ورغم الإضاءة الخافتة التي بالكاد تتيح رؤية جفنيه، ذكرتني تلك الوضعية بلمياء عندما كنا نتخذ من النظر أثناء الاستلقاء لعبة ظريفة لاستعراض الثقة بالنفس. كانت هي التي بدأت بهذه اللعبة، عندما دخلت إلى غرفتها ذات يوم باحثاً عن إحدى أوراق تمارين الرياضيات التي نسيت أن أطمس بعض العبارات التي كتبتها لابتسام خلف الورقة في آخر حصة مذاكرة. كانت لمياء مستلقية على سريرها فيما اعتقدت أنها نائمة، ورحت أبحث بين أوراقها دون جدوى، ثم أمسكت بحقيبتها كي أبدأ تفتيشها. وقبل أن أدخل يدي في الحقيبة، تكلمت بصوت واثق كما تفعل بطلات المسلسلات المصرية (كنت أعيّرها بذلك): "الورقة اللي انت بدّور عليها مش في الشنطة". التفتّ إليها بارتباك وحاولت إعادة الحقيبة إلى مكانها، ومرة أخرى تكلمت وعيناها مغمضتين: "خليها فوق الكرسي وانا برجّعها بعدين للدولاب". ابتسمت حين تخلّت عن اللهجة المصرية كما لو أنها تذكرت سخريتي من ممثلاتها المفضلات عندما تتحدث مثلهن، اقتربت من سريرها وبقيت واقفاً أحاول التملّص من أسئلتها الموجهة عن علاقتي بابتسام. ظلت مستلقية وبقيت واقفاً، ولأنها منشغلة بأداء اللعبة، نفدت من ذهنها مواضيع الحديث وأمعنت في انتقاد مظهري بدءا بتغضنات قميصي وسروالي الرياضي القصير، إلى شعر لحيتي البادئ بالنمو والذي دائماً ما كانت تصفه بـ "زنّار اليهود".  جلست بمحاذاة قدميها على السرير، بعد أن أخبرتها بمعرفتي للعبة. كنّا نلعب بأفقنا الطفولي، وكانت عيناها مفتوحتين على خديها وأنفها الجميل.
***
    بعد أن سمعت كلمات أبي بشأن لمياء، صعقت وانتابني شعور بالذنب من النوع الذي يوصل المرء إلى حالة اللامبالاة، فأنا لم أزرها منذ عشرة أيام. عجزت عن سؤاله إذا ما كانت لا تزال فاقدة للوعي، لأن ذلك ما جعلني أقرر عدم رؤيتها كل يوم. ظلّ أثر الصعقة أيماً بعد ذلك، وحتى عندما مررت بالمستشفى لوداع أمي وإلقاء نظرة على وجهها قبل المغادرة، لم أستطع النظر في وجه لمياء.
   هكذا غادرت عدن بقلب محقون بآلام التشرد والجوع والفجيعة، وقررت أن أتفادى الحنين إلى مكان غير غرفة المذاكرة وإلى شخص غير لمياء. حتى ابتسام التي صرت، كي أنجح في تفادي الحنين إليها، أتذكر الصد الذي كانت تقابلني به منذ أن منعها أهلها من دروس الرياضيات لدى لمياء. أما والديّ فقسوة أمي وضعف أبي كانا حريصان على عدم استثارة حنيني إليهما. وفي حين توقعت أن وقتا طويلا سيمر قبل أن يبدأ الحنين بتنغيص عيشتي، اكتشفت لأول مرة، أن الأيام الأولى من مغادرة الأشخاص والأماكن التي ألفناها هي التي يتضاعف فيها الحنين، ثم يخف تدريجيا وتألف أشخاصاً وأماكن أخرى. إلى الآن لم يحدث سوى استثناء واحد غير غرفة المذاكرة؛ الدكتورة سميحة وغرفتها في مستشفى الأمراض العصبية.