الجمعة، 19 نوفمبر 2010

مهرجان اللون.. جوهر الإنسان" النادر على طريقته"

الأحد , 15 نوفمبر 2009 .. 
أعيد نشره لمناسبة الذكرى الأولى لرحيل الفنان المعلم: هاشم علي

  هل يمكن الكتابة أو الحديث عن رحيل هاشم علي بذات العبارة التي تتذوق أعماله الفنية؟ ربما يستطيع المرء أن يتجنب الانفعال قليلاً فقط بمساعدة الروح القوية التي كانت تشع من عينيه كلما صادفته في شارع 26 سبتمبر أو في وسط المدينة، لكن الرحيل، بكل تأكيد، نال من وجدان كل محبيه، ولم يعد بالامكان تفادي الصورة التي تقفز إلى الذهن بين لحظة وأخرى عن استحالة مصادفة هاشم علي في أي شارع أو تفكر بزيارته ليشعرك تبادل الحديث معه بأنك لست وحيداً.
مازلت ناقماً على الطبيب الذي استغرب اهتمام الصحافة بمرض التشكيلي الأول في اليمن، هكذا حتى إذا لم يكن المنطق في صفّي. ربما لأن هاشم علي لم يكن من نوع الأشخاص الذين لا ينظرون من حولهم ليعرفوا ما يحتاجون إلى معرفته، ولم يكن ليغفل عن معلومة كهذه في حال كان هو الطبيب.
  آخر مرة رأيته يمشي على قدميه- وهل عاش هاشم علي سوى واقفا مثلما مات واقفاً!- كان يحضر افتتاح المعرض الشخصي الأول للفنان عبدالله المرور بمؤسسة السعيد. طلبت منه أن أجري معه حواراً فأعطاني رقم هاتفه، وظللت أتهيّب الاتصال به نظراً لقرب فترة معرفتي به كسبب ظاهري، لكن عدم توقع هذه النهاية السريعة لحياته كانت سبباً رئيساً للتأني في تجميع أفكار حوار بحجم فنان معرفي كهاشم.
  لا أدري لماذا تستحوذ عليّ لحظات زيارته في المستشفى ونظراته الأخيرة باتجاهي وأنا أعده بتكرار الزيارة كل يوم حتى يتعافى؟ لم يكن بوسعي سوى التفوّه بهذا الوعد الساذج، في الوقت الذي لو لم أغادر فوراً، فسيضطر الطبيب لجرجرتي خارجاً. كان هاشم يتحدث من تحت كمام الأوكسجين بانفعال من يرغب في التحدث أكثر رغم حالته الصحية التي لا تسمح بذلك. قال إن أحداً لا يستطيع أن يخرجه من المستشفى، وسرى في دمي الخوف من أن يكون أدرى من كل المحيطين به –بمن فيهم الأطباء- باقترابه من النهاية. حتى في هذه الحالة الحرجة، لم يأبه للموت. كانت عيناه تقفان بشموخ وتقولان الكلمات الذي يحول دون وضوحها الكمام. كانت الكاميرا في حقيبتي، وخجلت من تصويره بذلك الوضع مثلما خجلت من أسئلة ذات علاقة بآخر لوحة رسمها أو آخر عمل كان بصدد إنجازه. خرجت وأنا أشعر بذنب عدم التواصل معه عندما كان لا يزال بصحة جيدة.
بعد يومين فقط:
لكنه مات، مع ما يحمله هذا الحدث من دلالة خانقة ومثيرة لإرباك فكرة المصير الذي لا نستطيع أن نتوقع له توقيتاً معيناً. الموت كحد فاصل وواضح في حال أردنا معرفة إذا ما كنا سنلتقي شخصاً ما مجدداً. رحل هاشم علي وترك «دمعة كبيرة» في عيوننا وشعوراً بأن الموت ليس عادلاً. وحين كان مشيعوه يدخلون جثمانه إلى القبر، كانت امرأة ثلاثينة تسكن كوخاً من الصفيح ملاصقاً لسور المقبرة من الداخل، تستغرب كونها تشاهد للمرة الأولى جنازة يحرص الناس على تصويرها.
  دُفن في مقبرة الأجينات بتعز بحضور رسمي لمحافظ المحافظة ونائب وزير الثقافة وجموع من محبيه ومعارفه، واستكملت مراسيم دفنه بسرعة في «مجنَّة» سبقه إليها (6) موتى من البسطاء الذين طالما كانوا أبرز موضوعات لوحاته البديعة. «باقي واحد بس ونقفل المجنّة». قال الحاج ناجي حمود علي- الذي أمضى ما يقارب 30 سنة في حفر القبور بالأُجينات– ليشير إلى أن سعة المجنّة (8) أشخاص فقط.
  كانت مبارحة المكان الذي دفن فيه صعبة، مثلما كانت مغادرة غرفة العناية المركزة في المستشفى، مع فارق أن من يستثقل بقاءك إلى جانب قبره هو «حفّار القبور» وليس الطبيب، حتى إذا كنت ستقنعه أنك تريد تصوير «المجنَّة» بعد إغلاق بابها الإسمنتي. مع ذلك، يخطر ببالك وأنت تشاهده يحثو التراب الفائض بعد الدفن؛ ماذا لو أن الأستاذ يشاهده الآن؟ وبالتأكيد، لاتستطيع أن تتكهن بزاوية نظر الفنان، لكنك تلمس الصعوبة التي يتطلبها هكذا مشهد لإنضاجه فنياً. الرغبة بالبقاء قريباً من هاشم علي حتى وقد صار في قبره مماثلة للرغبة في إبقاء عينيك داخل تفاصيل لوحات «الأبَّال»، «أديب السلطان»، «مزمار»، «ضارب الطّار» أو «العقد» و «لاعبة العجلة».
  من احتفائه باللون، والاشتغال على التفاصيل بدقة ووضوح، يدرك حتى المتذوق غير المتخصص أن هاشم علي لا يترك لوحاته مغلقة بإطارات جمالية أحادية الفكرة، وفي نفس الوقت غير ضبابية. ذلك أن وعيه على التجريب يتجاوز مجرد الرغبة بالتجريب، فهو يعرف أن التجريب غير المدروس يجعل من الفنان «مشعوذاً»، كما ورد في أحد حواراته، إضافةً إلى أن تقنيات الرسم لديه متجددة باستمرار ولا تخلو من ابتكار يحمل توقيعه الخاص.
طيلة أربعة عقود رسم هاشم علي لوحات لا تتوفر لعددها إحصاءات دقيقة لكن (45) معرضاً كافية لاستنتاج غزارة الإنتاج الفني الذي كان كافياً لإقامة معرض واحد كل ثمانية أو تسعة أشهر ولفترة طويلة.